وإذا تركنا مسألة إهمالنا اللغة العربية وعدم إيلائها ما تستحقه من اهتمام نزرعه في أبنائنا كانتماء وهوية لا يتنازلون عنها ، ودونها ( خرط القتاد ) ، وانتقلنا إلى ثقافتنا فإننا سنكتشف كماً كبيراً من الغرابة في المنحنى الذي يجري إلزامنا بقبوله كمفهوم للثقافة ، لا يقوم في أساسه على بيان مقدرات العروبة والإسلام ، ولا يخضع لاعتبارات الهوية والانتماء . بل وفي سبيل نشر هذا المفهوم الغريب تُنفق مئات الآلاف من الدنانير تتفاخر بعض الطبقات أو التوجهات عندنا أو ما يسمونهم بالنخبة في عالم الفكر والأدب بإقامة مهرجانات لهذا المفهوم الطاريء للثقافة لا يكون للثقافة في تلك المهرجانات نصيب سـوى الاسم ، وبعض الأطروحات السطحية في أحسن الأحوال ، والباقي دعوة للطرب أو الرقص أو الاستماع إلى سيمفونيات أو أوبريتات عازفة من الشرق أو الغرب ، ومن الشمال أو الجنوب ، والتعرف على رقصات مثل ( الفلامنجو ) أو ( السامبو ) أو ( الباليه ) وثم فقط . ولا أحد يعرف بالضبط متى حصل هذا الخلط ؟ وكيف تبنّته الدولة وجعلت له وزارة للثقافة ؟ وكيف تطوّر وأصبحنا في موقف لا يحســد عليه حتى صرنا حينما نقيم مهـرجانـات أو أســابيع في الخارج نســميها عنـوة ( ثقافية ) لا نجد فيها سوى عروض فنية وأغنيات وطنية وبعض الملصقات والكتيبات وبعض الأعمال الفنية التراثية مثل فنون ( الليوة والبدندوه والعرضة ) حتى حينما وقعت الأحداث المؤسفة ، أحداث 14 فبراير ؛ اكتشفنا أن ميزانياتنا ذهبت هدراً وضياعاً على تلك المهرجانات والأسابيع ( الثقافية ) في الخارج ولم تنفع الوطن أو تخدمه في شيء ، بالطبع كما ترون وتسمعون وتتابعون .
ونتيجة لذلك صارت ثقافتنا وبالذات أطفالنا وشبابنا مسخاً أو خلطاً لا علاقة لهم بثقافة الهوية الوطنية إلاّ بضع أغاني وطنية ومعها أيضاً قصائد شعرية من نوع معين لانعرف – أيضاً – كيف سيطرت بدورها على ساحة الشعر رغم ضعفها وانعدام قافيتها وهلاك قريحتها وانفتاحها لكل من هبّ ودب .
الإضرار بالهوية والانتماء لم يقف عند حدّ الجهل بالرموز والقادة والصحابة والتابعين والعلماء حتى أن الكثيرين صاروا يعرفون أبطال المصارعة ويعلّقون صور اللاعبين والفنانين ويحفظون سيرهم وأخبارهم أكثر – يمكن – من دراستهم . بل لم يسلم من هذا الضرر حتى الزي الوطني عندنا ، الزي الوطني الذي هو عبارة عن الملابس التي يرتديها الشعب والتي تعبر عن هويته وثقافته وعليها بصمات أسلافه وتراثه وفيها لمسات من قيمه وعاداته وتقاليده ، وهو المظهر الأول للهوية الوطنية وتوليه مختلف الدول عناية خاصة لا تتنازل عنه أو تنهزم وتتحوّل عنه أمام أزياء ثقافات وهويات أخرى . وقارنوا بين كيفية تمسّك الآخرين بأزيائهم الوطنية وحرصهم على الظهور بها في شتى مناسباتهم وممارستهم لشؤون حياتهم ومهامهم الرسمية عند سفرهم إلى خارج بلدانهم وبين ما يحصل عندنا في هذا الشأن ، لا حاجة لي لبيان أننا لم نسمع أو نرى مسؤولاً أو زائراً غربياً أو شرقياً قد تخلّى عن بدلته ولبس ثيابنا عندما زار بلدنا بينما في المقابل من المتاح أن نرمي بكل سهولة ثيابنا وغترنا وعقالنا ونستبدلها بالقمصان و( البنطال ) في بلدانهم ، وذلك من دون أن نسأل أنفسنا عن سبب تمسكهم وعدم تمسكنا !
إن خطر اختفاء الزي الوطني صار يغزونا في الداخل ناهيك عن تخلينا عنه في الخارج ! أنواع شتى من الملابس طرأت على سمْت أبنائنا وبناتنا غالبها ناتجة عن ثقافة تغريب وتفتيت هوية وتنكر لأصول وموروثات وعادات وقيم . هذا الخطر نلحظه في المدارس والجامعات والمجمعات والأسواق و … إلخ
أعرف أن بعض البسطاء سيقول : لاتعقّدها ياجمال ، وأعرف أن بعض الدهماء أو الحمقى ، سواء من قليلي الالتزام الديني أو ممن يكرهون التدين ؛ قد ينفرون مما أنتقده عن غياب ثقافتنا عن هويتنا وحالة الانفصال بينهما لكننا الآن بعد أحداث 14 فبراير يجدر بنا أن نعمل وقفات تدقيق ومراجعة ، لنرى كشف حساب : ماذا ربحنا من هكذا مفهوم للثقافة ، أنشأنا وزارة لنشره وبذلنا مئات الآلاف من الدنانير لصالحه ؟ وماهي خسارتنا في أبنائنا جراء هذا الاندفاع غير المحسوب لثقافة لاتعظم هويتنا ولا تنتصر لها ، ولا تزرعها وتحفرها فيهم ؟
من يحسب للمستقبل ويستشرف آفاقه لابد أن يضع يده على قلبه خوفاً على هوية وانتماء تستدعي كل المعطيات والمخاطر الماثلة أمامنا أن نقفز بعملية إنقاذها وصونها وجعلها في مقدمة الاهتمامات والأجندات . وغداً نكمل .
إضافة :
ذكر لي أحد القراء الأعزاء أنه قبل عام أو أكثر انتشر مقال في المنتديات الإلكترونية لمواطن خليجي جاء إلى البحرين مع عائلته ، وخلال زيارته طاف على عدة مواقع ومرافق ، من بنوك وفنادق وشركات ، اكتشف بعدها أن اللغة العربية يضعف استخدامها وتداولها وأن اللغتين الطاغيتين هما الانجليزية والفارسية بحيث أنه تساءل في نهاية مقاله قائلاً : لا أدري هل استوعبتم لماذا تطالب إيران بالبحرين؟
سانحة :
قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تسلّمه مفاتيح بيت المقدس ” نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام ، فإذا ابتغينا العزّة بغيره ، أذلّنا الله “