في سابق الأيام والزمان ، كانت أجوائنا تطرب على صوت هديل الحمام ، وتغرّد في سمائنا البلابل والعصافير ، كانت كلها مدعاة للفرح والبِشر ، كنّا نأنس لبعضنا ، البشاشة لاتغادر المحيّا ، وكنّا نستهلّ صباحنا على نغمات وتغريدات هذه الطيور الجميلة التي كانت تملأ أفقنا الواسع ، وكنّا نرى أسراب تلك الطيور على مدّ البصر . لكن بعدما جرت بين الأمور مياه وتعكّر الصفاء وتبدّلت الأحوال ؛ ازدادت في سمائنا الآن الغربان وصرنا نصحو كل يوم على أصوات مفزعة و”مقرفة” وهي أصوات نعيق تلك الغربان التي هي رمز منذ القدم للشؤم والنحس ، تنزعج الناس من رؤيتها أو سماع أصواتها القبيحة . وقد أورد الجاحظ في كتابه الحيوان أن الناس يتشاءمون بها ويتطيرون منها ، وذكر: ” أن الغراب من لئام الطير وليس من كرامها ولا من أحرارها ومن شأنه أكل الجيف والقمامات لأنه لا يتعاطى الصيد بل إن وجد جيفة أكل منها وإلا مات جوعا ” .
وتقول العرب في الأمثال : إذا أبطأ الرسول ولم يعد (ما هو إلا غراب نوح) حيث قيل بأن نوحا عندما طالت به الرحلة في الطوفان أرسل الغراب رسولاً ليرى إذا ما كانت الأرض جفت وبانت اليابسة غير أن الغراب لم يعد لأنه انشغل بأكل جٍيَف الغرقى.
بل صنف رسول الله صلى الله عليه وسلم الغراب ضمن فواسق الدواب التي يجوز ذبحها في الحلّ والحرم ، فقال : “خمس من الدواب كلها فاسق لا حرج على من قتلهن : العقرب ، والغراب والحدأة والفأر والكلب العقور ” وتقول العرب في اسمه ( الغراب ) : (الغين غدر وغرور وغمّ وغلة وغرة وغول- وهي كل مهلكة- والراء من رزأ وردع وردى- وهو الهلاك، والألف من الألم، والباء من بلوى وبؤس وبرح وبوار).
غير أنه ليس بالضرورة في موروثنا الشعبي أو وعينا الجمعي أن يكون لفظ (الغراب ) محصوراً في الطير المسمى بالغراب إنما الغراب رمز ومصطلح للتشاؤم اعتدنا إطلاقه على زيارات مكوكية لشخصيات أمريكية وغربية تزورنا بلداننا وتتجوّل هذه الأيام في منطقتنا ، تقدّم نفسها كحمائم للسلام ودعاة للإصلاح وحماة لحقوق الإنسان بينما لا يتم النظر إليها في موروثنا السياسي والمأساوي إلا على أنها غربان سود ، آكلة لحوم وجيف ، تقتات على الدماء والأشلاء ، ووراءها ما وراءها من الشرّ والشؤم بالضبط مثلما استقر عند العرب ” أنه كلما كثر نعيق الغربان في مكان فهناك دلالات على أن هناك شيء ما يُدبر فوق الأرض ، فإما أفعى تريد أن تتلقف الصغار في عشها أو هناك ثعلب أو ذئب يكشّر عن أنيابه للبدء في المكر بالانقضاض على وجبة جديدة ” فاللهم احفظ وطننا العزيز من شرور الغربان ، ما ظهر منها وما بطن .