يقول الدكتور عائض القرني : ” إذا مرَّ القطار وسمعت جلبة لإحدى عرباته فاعلم أنها فارغة . وإذا سمعت تاجراً يحرّج على بضاعته وينادي عليها فاعلم أنها كاسدة . إن كل فارغ من البشر والأشياء له جلبة وصوت وصراخ ، أما العاملون المثابرون فهم في سكون ووقار “
واعتماداً على هذا الحسّ البديهي فقد أصبح من أسهل الأمور التفريق بين الغثّ والسمين ، وبين الناجح والفاشل . وليس مطلوباً منك في وقتنا الحاضر لتتمكن من التعرّف على العربات الفارغة عن مثيلاتها الممتلئة سوى أن ترخي أذنيك وتمدّ بصرك في مختلف وسائل الإعلام ، وتتابع أيهم الأكثر تصريحاً وحباً للأضواء وشغفاً إلى حدّ الهوس للظهور الإعلامي ، وما من شاردة أو واردة إلاّ ويكون له نصيب من ركوبها أو استغلالها لتلميع نفسه وبيان قدراته وخبراته ، وربما ( خوارقه ) من دون أن يستفيق من غفلته وسباته ليعطي شخصه مايحتاجه من التقدير والاحترام الذي يرضي ضميره في لحظات السكون والخلوة مع النفس واكتشاف حجم فقره ، أقصد الفقر الحقيقي .. فقر العلم والكفاءة والقدرة والمهارة وماشابهها من متاع لاتحمله تلك العربات الفارغة .
والعربات الفارغة تحبّ السبق ، بمعنى أن تكون في المقدّمة ، بمعنى أيضاً أنها ( تموت ) في الطفح لأنها تشترك في صفاتها كثيراً مع مدلولات المثل الشعبي الشهير ” ما يطفح إلاّ اللوح ” وذلك باعتبار الاهتمامات التي تنشغل بها من ( زود ) الفراغ الذي يملأ حمولتها بحيث أنها لاتستطيع إلاّ أن تكون كما اللّوح على سطح البحر أو الماء ، لافائدة منه تماماً سوى أنه قد طفح فوق الماء .
الأحداث المؤسفة التي مرّت بوطننا استطاعت أن تقدّم خدمة جليلة لوطننا العزيز حينما أنجزت باقتدار مهمة الفرز بين العربات الفارغة والعربات الممتلئة ، وكشفت المعادن النفيسة وميّزتها عن الخَبَث . وذلك حينما خبت صوت وضجيج تلك العربات التي كانت – قبل الأحداث – تملأ الرحب بتصريحاتها و( تمثيلياتها ) لكنها توارت عن الأنظار ولاذت بالصمت والسكون عندما احتاج الوطن إلى المواقف المخلصة .
غير أن تلك الأحداث المؤسفة التي ألمّت بوطننا العزيز وندعو المولى عز وجل أن يحفظنا وأن نكمل اجتيازها ؛ كشَفت لنا أن الشارع السنّي – بالذات – تقلّ فيه الرموز وينقصه القادة ، وأن من كان يُعتقد فيهم تلك الرمزية أو يُفترض فيهم ذلك إنما هم عربات فارغة يُسمع صوتها و( جلبتها ) من بعيد لكنها متى ما اقتربت في موقع الحدث لم نجده شيئاً .
لا يختلف – أيضاً – عالم الحيوان في معرفة الأشياء الفارغة وتمييزها ، فهاهو ابن المقفع يحكي لنا في رائعته المعروفة ( كليلة ودمنة ) ، قال دمنة : زعموا أن ثعلبا أتى أجمة ( أَجَمَة : مكان فيه شـجر صغير وكثيف وملتف ) فيها طبل معلق على شجرة ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرة حركتها فضربت الطبل فسمع له صوت عظيم باهر. فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظيم صوته. فلما أتاه وجده ضخما ، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم . فعالجه حتى شقّه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه قال : ” لا أدري لعل أفشل ( أضعف ) الأشياء أجهرها صوتا وأعظمها جثة “.
سانحة :
يقول برنارد شو : العربة الفارغة أكثر ضجيجاً وجلَبَة من العربة الممتلئة ، وهكذا رؤوس الناس .