أفرزت ثورات الربيع العربي وعياً وحراكاً جماهيرياً مختلفاً عما كان سائداً فيما مضى من الزمان حيث ارتفعت لدى عموم الشعوب العربية معاني ومصطلحات تتعلق بالكرامة والحرية والعدالة والمساواة والشراكة ومايستتبعها من مفردات كانت غائبة أو مغيبة قسراً عن تلك الشعوب قبل أن تستيقظ على وقع أحداث هذا الربيع لتكتشف أنها حقوق ومكاسب خالصة لها لا ينبغي انتزاعها منها . كما أن هذا الفرز شمِلَ حتى الليبراليين والعلمانيين الذين كانوا في مواجهات مستمرة مع التيار الإسلامي ، وهو التيار الذي قدّمته ثورات الربيع العربي بديلاً عن عقود من أنظمة حكم ديكتاتورية أو عسكرية ابتعدت كثيراً عن روح الدين ومراميه .
فالليبراليون والعلمانيون الآن أصبحوا على نوعين : أولهما : أطراف لاتخفي قلقها من تغوّل الإسلاميين في مؤسسات الحكم حتى وإن جاؤوا عن طريق صناديق الاقتراع ، أي حتى وإن كانوا هم خيار شعوبها . وذلك اعتماداً على تخوّف من هيمنة نمط اجتماعي أو سياسي في إدارة الدولة قد لايرضيهم . وهو تخوّف مشروع ربما تأسس على خلفية خطابات الإسلاميين إبّان مواجهاتهم مع الليبراليين والعلمانيين على مدار السنوات الماضية أو أنه نشأ عن فهم مغلوط أو رؤية غير واضحة عن الحكم في الإسلام . غير أن هذه الأطراف لديها مباديء وأخلاقيات عامة لاتتناقض مع طرح الإسلاميين وبينهما أمور مشتركات تحظى بتأييد متبادل تتعلق بالديمقراطية والحرية والنزاهة وما شابه ذلك مما يحدث شيئاً منه الآن في تونس ومصر وقبله في تركيا التي صار حكم الإسلاميين فيها على مدار العشر السنوات الماضية محل إشادة وإعجاب من هذا النوع من الليبراليين والعلمانيين بعدما رؤوا في النموذج التركي الحالي مالا يختلف كثيراً مع توجهاتهم وأمنياتهم في الحكم الرشيد . وعلى العموم هؤلاء لايحملون كرهاً للإسلام ووسائلهم في الاختلاف والحوار قائمة على احترام حق الآخرين ويدركون مقدار وحجم تنامي نفوذ الإسلاميين في الشارع لاسيما وأن عقود الحكم السابقة من قبل أنظمة علمانية أو ليبرالية لم تكن ناجحة ، بل خرّبت البلاد وأضاعت ونهبت الثروات بحيث أنها ماتركت إرثاً يمكن أن يُشار إليه أو يُحتذى به أويُدافع عنها بسببه .
أما النوع الثاني من الليبراليين والعلمانيين فهم الذين يحملون عداء فكرياً مع أحكام الإسلام نفسه أو تربطهم بالحركات والجماعات الإسلامية حروب عقدية وتصفيات شخصية أو انتخابية أو خوف على مصالح وشهوات أوماشابهها من أمور تجعلهم في مواجهة سافرة معهم وتخرج الخلاف عن حدوده النظيفة وتقرّب الخصومة من حال الفجور . بعض أقطاب هذا النوع يُنظّر لمفاهيم الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان والنزاهة والشفافية لكنه ما إن يأتي الكلام عن الإسلاميين حتى تغيب عنه تلك التنظيرات ويصبح ديكتاتوراً ويذبح بنفسه معاييره ومبادئه التي يكتب ويتكلم عنها . وبالطبع أمثال هؤلاء لايعترفون باختيارات الشارع حينما تصبّ على غير رغبتهم وأهوائهم . وبالتالي يسهل كشف تناقضاتهم وفضح فجاجتهم ، وتبعاً لذلك ضعف تأثيرهم ووجودهم رغم أن كثرة منهم لازالوا ينافحون ويبذلون مافي وسعهم من اتهامات وتخويفات وتشويهات وتحريضات وتأليبات وغيرها أملاً في أن يكون لهم مكان في مكوّنات الوعي الجمعي الجديد بعد ثورات الربيع العربي .
وهنالك طرف آخر ، يقع بين هؤلاء وهؤلاء ، هم أقرب إلى ” كذابين الزفّة ” في فرقة ” حسب الله ” الموسيقية الشهيرة في أواخر القرن قبل الماضي حيث غالب أعضائها المنضوين فيها مرفوضون ، لم يجدوا لهم فرقاً موسيقية تقبلهم وتشغلهم بسبب رداءة عزفهم أو عدم إلمامهم بمتطلباته فتجمعوا لعمل فرقة كل معزوفاتها نشاز ولكنها تضيع بسبب الصوت العالي للآلات النحاسية الموسيقية والطبل البلدي الذي كانوا يحرصون على استخدامه ، حتى صارت موسيقاهم معروفة بـ ” مزيكة حسب الله” وأصبحت من الأمثال والنكات الرائجة عن الضجيج الفارغ ، إذ يعزفون ( أي حاجة ) .
سانحة :
حاولت أن أفهم كيف أن سفير روسيا الاتحادية لدى مملكة البحرين فيكتور سميرنوف يقول أمس أن ما ورد على لسان المندوب الروسي الدائم في جلسة مغلقة لمجلس الأمن على مستوى المندوبين؛ لا يعبر إطلاقاً عن الموقف الروسي الرسمي ؟ بمعنى هل يمكن لموظف يمثل بلاده في هيئة بمستوى مجلس الأمن أن ينطق بكلام خاص به هو وليس بلاده ؟! ومن يضمن لنا ألاّ يأتينا غداً المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن فيقول أن تصريح سفير روسيا الاتحادية لدى مملكة البحرين بشأن دعم الخطوات الإصلاحية لجلالة الملك ؛ لا يعبر إطلاقاً عن الموقف الروسي الرسمي !!