راصد

يونـس بحـري

ذاكرة الإعلام العربي تحفل بالعديد من الشخصيات التي لا يمكن أن تطويها سجلات النسيان ، ليس بالضرورة لسبب إنجازاتها وإنما قد تُحفر في المخيلة العربية لفشلها أو لسوء آثارها على الوعي الجمعي ومقدار التضليل الذي ساهمت تلك الشخصيات في بسطه على الرأي العام العربي الذي كان يرى آنذاك في الإعلام – وبالذات المذياع – نوع كما السحر الذي يأسر الأسماع ويصعب عليهم تكذيبه أو حتى الشك في مصداقيته قبل أن يظهر لهم في واقع معيشتهم وحياتهم على الأرض نتائج على خلاف ما كانت تلك الشخصيات تسوّقه وتروّج له كذباً وتدليساً على العقل العربي، ولربما يلجأ بعض الفاشلين الآن أو ممن لم يفهموا لغة عصرهم الحالية إلى استنساخ تلك الشخصيات وإعادة الحياة لمثلها .

من تلك الشخصيات التي كان لها ( رزّة ) في إعلامنا العربي في القرن الماضي ، قبل عدّة عقود شخص يُدعى يونس بحري الجبوري ، من مواليد الموصل بالعراق في عام 1903 الذي تدرّج في دراسته حتى بلغ مرحلة التعليم العالي لكنه لم يكملها حيث خرج من العراق عام 1923 وعاش متنقلاً في عدد من الوظائف بالدول الآسيوية والأوروبية مسجلاً عدد من المغامرات الغريبة والمليئة بالمتناقضات التي ظلّت كعنوان بارز في سيرته وانعكست على أدائه الإعلامي ( الإذاعي ) .

من تلك المتناقضات الكثيرة التي اشتهر بها حكايته في جامع باريس الذي بني في العشرينات من القرن الماضي وكان يحوي إلى جانب الجامع ، مطعما مغربيا وملهى ليليا، كان يونس بحري يؤذن للصلوات الخمس في مئذنة هذا الجامع بصوته العريض، ويتولى الإمامة بالمصلين عند الحاجة ، وفي الليل كان يرأس تخت الموسيقى في الملهى، فيعزف على العود ويغني الأدوار التي يجيدها ولا يتأخر عن المشاركة بالرقص الشرقي مقلدا أشهر العوالم في القاهرة ! وبالطبع ليست هي القصة الوحيدة في عالم متناقضات يونس بحري حيث قد تضيق مساحة العمود بتعدادها . غير أن أهم ما في سيرته هو امتطائه لميكرفون إذاعة برلين العربية إبّان الحرب العالمية الثانية “1939-1945” وانطلاق صوته مجلجلاً من إذاعتها مردداً “هنا برلين حيّ العرب ” بعدما وجد هتلر على يد وزير إعلام الدولة النازية (جوزف غوبلز ) في يونس بحري واجهة لتسويق زعامات ومشاريع يريدونها ، إذ كان يبشر العرب بالنصر على الحلفاء من منطلق مناصرة هتلر ونكاية بالاستعمار الانكليزي مثيراً الحماس والعزة من منطلق المشاعر القومية التي كانت تكره الاستعمار الانكليزي الجاثم على كثرة من ديار العرب آنذاك ، وكان يونس بحري يجري دعاية للألمان من خلال خطب وبيانات نارية تعد الحلفاء ( الانكليز ) بهزيمة نكراء ، وكان يردد ” بلاد العرب للعرب ” من خلال إذاعة برلين العربية التي أصبح مديراً لها وتم مكافأته برتبة ( مارشال ) قبل أن يكتشف العرب أن الذي سقط هو هتلر وليس الانكليز بالضبط كما فعل بعد يونس بحري المذيع المشهور أحمد سعيد الذي كان يخرج في صوت العرب إبّان حرب 1967 ليصرخ في ميكرفونها ” أمجاد ياعرب أمجاد ” ويروّج لانتصارات وهمية لم تتعدّ حدود الميكرفون الذي كان يتحدّث منه . وبالضبط أيضاً كما فعل وزير الإعلام العراقي الشهير محمد سعيد الصحاف حينما كانت القوات الأمريكية بمدرعاتها وكاسحاتها في عام 2003م على أبواب بغداد ، تدنّس ترابها وتملأ طائراتها سماءها وتدكّ بوارجها أراضيها ؛ كان حضرته ( الصحاف ) يكابر ويتحدث عن انتصار غير موجود ويصف الغزاة بالمرتزقة والأوغاد و( الطراطير ) ووصفه المشهور ( العلوج ) ويتوعدّهم باليوم الأسود كيومهم في فيتنام إلى أن انكشف كذبه وتهريجه الإعلامي بحيث تحوّل في الوعي الجمعي العربي إلى مادّة للسخرية والاستهزاء من حالة الإعلام العربي على غرار نكتة تقول” تم قتل الوزير الصحاف في معركة بغداد لكنه صرح من قبره أنه لا يزال حياً وسيوافيكم بالتفاصيل ” !

أما الآن ؛ وقد تقدّم الزمان ، ولم يعد ميكرفون الإذاعة هو الوسيلة الوحيدة للمعلومات والإعلام ، ولم يعد بالإمكان استدرار الرأي العام بنفس تلك الطرق البالية ؛ لا يصح أن نسمع أو نسمح لعقولنا باللجوء لتنظيم حملات إعلامية مدفوعة الأجر في مختلف وسائل الإعلام بحيث تكون تحت الطلب لتسويق أمور وشخصيات وتوجهات ومشروعات و … إلخ أو مهاجمتها والنيل منها على نحو سيء ومقيت ومثير للشفقة ، يذكرنا بيونس بحري أو أحمد سعيد أو الصحاف وينبيء عن مقدار تخلّف لايزال البعض حريص على العيش داخل جدرانه في عصر لم يعد أمام الإعلام والمعلومات أي جدار ..

سانحة :

من كان لديه مشروع أو رؤية أو ما شابه ذلك  فالأولى له أن ينزع للإعلام الذي يتسم بالصدق والشفافية ويغلفه بالنظافة والصحة والاحترام ، أعني نظافة المصدر وصحة المعلومات واحترام عقولنا .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s