راصد

” الآن فهمت .. لقد ضلّلوني “

رغم أن التاريخ قد سطّر في سجلّه المشرف وصفحاته البيضاء أن الشرارة الأولى في ثورات الربيع العربي كانت على يد مواطن تونسي بسيط جداً ، خالي من أي انتماءات ، بعيد عن أي أجندات ، مقطوع عن أي ارتماءات أو علاقات خارجية ، فهو شاب من مواليد 1984 اسمه طارق الطيب محمد البوعزيزي قام يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010م بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد ، وذلك احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بو زيد لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه ، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي التي صفعته أمام الملأ . فكانت هذه الحادث بداية الصاعق لتفجر ثورة غضب عارمة نتجت عن شعور عموم شعوب الثورات العربية أن أوضاعهم المعيشية لاتختلف عن ( البوعزيزي ) وأنهم يتجرّعون في طريقة حياتهم وممارساتهم الاجتماعية ذات المهانة والذلّة التي شعر بها ( البوعزيزي ) ودفعته لإنهاء حياته بإضرام النار في نفسه ، حتى أن أحد الثائرين في تلك الانتفاضات رأيناه في الفضائيات يبكي وهو يصرخ ” أنا إنسان مو حيوان ” .

ورغم أيضاً أن صفحات التاريخ العظيمة قد ازدانت باسم وصورة حمزة علي الخطيب ،  باعتباره صاحب السبق في انطلاقة الثورة السورية المباركة  ، فهو  طفل سوري من مواليد عام 1997 من  محافظة درعا ، لم يُعرف عنه انتماء لحزب أو جماعة ، ولم يثبت عليه ارتباط  بجهة أو جهات خارجية ، كما أنه ليس له سابق معرفة أو علاقة أو ارتباط شخصي أو فكري أو تنظيمي بالتونسي البوعزيزي ، إنما تعرّض لتعذيب جسدي شديد أثناء مشاركته في مظاهرة احتجاج صغيرة  تم اعتقاله عند حاجز للأمن السوري في 29 أبريل 2011م ليتم تسليم جثمانه لأهله بعد عدة أيام وبدت عليه آثار التعذيب والرصاص والتنكيل والتمثيل بجثته حتى أن عضوه التناسلي قد قُطع . نتج عن ذلك أن عمّت المدن السورية حركة احتجاجات كبيرة كانت انطلاقتها مما أسموه ( سبت الشهيد حمزة الخطيب ) إحساساً منهم بأن القمع الذي تعرّض له الطفل حمزة على هذا النحو الفظيع إنما يعبّر عن مقدار استهانة النظام بقيمة الإنسان وتجرأه على الانتهاك الصارخ لحقوقه وكرامته واسترخاصه لحياته .

ورغم أنه في غضون مايقارب العام الواحد ؛ مابين إحراق الشاب البوعزيزي لنفسه وقتل الطفل حمزة والتمثيل بجثته صارت كثرة من الدول العربية على كفّ عفريت ، حيث انتفضت الشعوب وقررت الانتصار لحريتها ولكرامتها ، عمّها طوفان تغيير وثار فيها بركان أسقط أنظمتها وبدّل دساتيرها ، واكتشف قادة تلك الدول وحكامها أنهم أفرطوا – لعقود وعقود من السنين – في كسب ولاء الأوهام والصور والأغاني والقصائد وقرّبوا إليهم المنافقين والمتمصلحين والحرامية بينما فرّطوا في كسب الحبّ الحقيقي من شعوبهم ،  وتغافلوا عن أن الولاء والإخلاص هي قيم  يتم حفرها في قلوب الناس وأفئدتهم بالعدل والمساواة والخوف من الله وعدم التجرأ على السطو على أموال وثروات الشعوب وسرقة مقدّرات أجيالهم . وفات أولئك القادة والحكام أن أكبر من سيحميهم عندما تتهاوى عروشهم ، وتضطرب كراسيهم ، هي تلك الشعوب التي أخلصوا البذل والعطاء والإخلاص من أجلها ، ستفديهم حينئذ بأرواحها وستدافع عنهم بمهج قلوبها ، وستكّن لها عند رحيلها صادق الحب والاحترام ، وستظل بعدئذ صورها ناصعة البياض محمولة فوق الرؤوس كالتيجان ومحفوظة في القلوب كالألماس ، وستسترجع سيرها الأجيال من كتب التاريخ الخالدة وليس من سلال المهملات والقاذورات البالية .

ورغم هذا الكمّ الكبير من المعطيات والدروس التي أنتجها مايقارب العام الواحد المحصور مابين إحراق الشاب البوعزيزي لنفسه وقتل الطفل حمزة والتمثيل بجثته إلاّ أن بعض أنظمة الدول تصرّ على عدم الاعتبار وترفض الإصلاح ولاتريد أن تصدّق أن شعوبها صارت كما ( العيال كبْرت ) ، وأصبحت تلك الأنظمة ترخي سمعها وبصرها وفعلها للموتورين والحاقدين والمنافقين والمتمصلحين ، ولمن لايملك لهم حباً خالصاً ولايقدّم لهم نصحاً صادقاً أو رأياً أميناً ، ويخدعهم عند أية احتجاجات أو اعتراضات شعبية بعبارة جعلوها صالحة لكل الاستعمالات ، وهي ” أن هنالك مؤامرة ضدهم ” فيعملون على استعداء الحكام على شعوبهم وتعكير الصفاء بينهم وزيادة الأعداء لهم ، إرضاء لنزوات أو تزلفاً لهدايا وعطايا أو تصفية لحسابات وانتقامات ، بينما قد يكون المطلوب مجرّد إصلاحات تقتضيها سنن التغيير والتطوّر الكونية وتتطلبها ظروف المرحلة ، تحفظ للشعوب حريتها وكرامتها وثرواتها ، وتصلح بين الحاكم ورعيّته ، وتلحقهم بقطار التغيير قبل أن يتجاوزهم .

سانحة  :

    على الحكام والقادة أن ينزلوا عند قوله تعالى ” إن خير من استأجرت القوي الأمين ” فيحسنوا الاختيار لتكليفاتهم ولاستشارتهم ولبطانتهم ولإسداء النصح المخلص لهم ويبعدوا عنهم الضعفاء والمتمصلحين والحرامية والمنافقين والمرتشين قبل أن يكتشفوا فيهم ذات اكتشاف الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي ، الذي قال عنهم بعد فوات الأوان وعشية فراره من ملكه ووطنه ” الآن فهمت  .. لقد ضلّلوني ” !!!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s