جاء في قامس المعاني أن ( الزّار ) هو حفلة راقصة تقام لطرد الأَرواح الخبيثة التي تمسُّ أجسام بعض الناس في زعمهم . وجمعها “زِيْرَان” . في التفاصيل يقال : فلان فيه زيران ، ومزيور . والزيران عندما تأتي صاحبها وغالبا ما تأتيه عند سماعه ضرب الطيران، جمع طار، (الدفوف). فيقوم بالرقص بحركات شبه هستيرية تنتهي بحالة تشنج عند البعض. وفي معجم ألفاظ الإمارات: زَار : الزار هو الجني أو الجنيّه . فيقال لمن ركبته روح شريرة : ” فيه زار “.
كان ضمن موروثاتنا الشعبية أن معظم الأمراض العضوية والنفسية تأتي من حلول روح شريرة في جسم المريض تستدعي تنظيم حفل يأخذ مسمى ( الزّار ) وذلك بأن يوضع المريض في وسط الدار ، ويغطي وجه ورأسه بقطعة قماش ، ويجتمع حوله الأهل والأقارب والأصدقاء ويباشرون في إشعال البخور لطرد الأرواح الشريرة من المكان وبضرب الدفوف وتلاوة الأدعية والتوسلات وما شابه ذلك من صراخ وهرْج يتناغم مع مقدار الصخب الذي يحصل في هذه الحفلة ( الزّار ) .
صحيح أن هذا الحفل ( الزّار ) قد تلاشى في أيامنا الحالية وصار الكلام عن إقامته على ذاك النحو الموجود في الموروث الشعبي مدعاة للضحك والاستهزاء ؛ إلاّ أن استخدام اللفظ أو مفردة ( حفلة الزّار ) مضت عندنا الآن عرفاً أو تشبيهاً بليغاً لأحداث ومناسبات وأنشطة قد لانجد لها من وصف أبلغ من تشبيهها بـ ( حفلة الزّار ) .
ولعل صدور تقرير ديوان الرقابة وما يتضمنه من مخالفات وتجاوزات هو بمثابة مناسبة سنوية تحوّلت على مدار الثمان السنوات الماضية إلى ما يشبه موسم لـ ( حفلة زار ) يحضرها ناشطون وفعاليات سياسية وإعلامية واجتماعية و( تويترية ) يوقدون حول التقرير الشموع ويضربون الدفوف ويدقون الطبول بالضبط كما كان يفعل المدعوون في حفلات ( الزّار ) قديماً الذين كانوا يتأملون شفاء مريضهم وخروج الجنّي منه ، ويوهمون أنفسهم في نهاية الحفل أن مريضهم قد تعافى وأن الروح الشريرة التي دخلت فيه قد ولّت وهربت .
في تقرير هذا العام حاولت أن تكون مشاركتي في ( حفلة الزّار) مختلفة عن الأعوام السابقة ومتميزة في عزفها عمّا سواها . أمسكت بآلة حاسبة (Calculator) وبدأت عملية حسابية أجمع فيها المبالغ المذكورة في شكل مخالفات أو تجاوزات أو متخلفات عن سداد أو استحصال أو ما شابه ذلك من أرقام مالية عادة ما يكون النظر إليها مدعاة لأن يسيل لها لعاب المحتاجين والمعوزين وذوي الدخل المحدود والمتوسط الذين هم كثرة غالبة تؤذيها جداً هذه الأرقام المالية المهدورة والضائعة .
في الحقيقة لست ماهراً أو حاذقاً في الرياضيات والحساب لكنني في أقل من عشر دقائق أظهرت لي شاشة الـ (Calculator) أن مجموع المبالغ التي انتقيت جمعها طاف الثمانية ملايين دينار، توقفت عندها لأني تذكرت أن الزيادة التي كتبت عنها الأسبوع الماضي وينتظرها الأساتذة والإداريون في جامعتنا الوطنية ، جامعة البحرين وطرقوا لها كل الأبواب ، وهم على هذا الحال منذ أكثر من عام ؛ تحتاج ميزانية قدرها مليون ونصف دينار فقط ! مليون ونصف دينار فقط تعيد لهم اعتبارهم وتثبت مقدار تكريمهم والحرص على دعمهم وتشجيعهم ، وهم الطليعة النخبوية في البلد ، أو هكذا يُفترض . كان هذا الاستنتاج بالنسبة لي سبباً للإحباط لكنه لم يوقفني عن عملياتي الحسابية حيث استمررت في جمع الأرقام من التقرير ، وما أن تجاوز الرقم الظاهر لي في الشاشة العشرة ملايين حتى تذكرت ( سالفة ) العجز الاكتواري الذي يحرم آباءنا وأجدادنا وأمهاتنا وأراملنا من أية زيادات أو ماشابهها تخصّهم كمتقاعدين أو مستحقين معاشات تقاعدية تسهم في تحسين سويّة معيشتهم وتردّ لهم في تالي أعمارهم شيئاً من تقديرنا لهم ، تحفظهم من العوز وتمنعهم من السؤال الذي قد يقارب عند بعضهم حال التسوّل . أيضاً لم أصل إلى حدّ اليأس ، قررت المواصلة في الـ (Calculator) لكنني بعد قليل وجدت نفسي في حالة ذهول وحزن عندما تذكرت – ضمن عدد من الحالات الإنسانية التي نتلقاها ككتّاب وصحفيين – تلك السيدة المطلقة التي كتبت عنها قبل حوالي عامين ، باعت ذهبها ( شبْكتْها ) لتبدأ معالجة ابنها المريض ذي الـ( 14) عاماً ثم احتاجت بعد نفاذ المبلغ إلى مواصلة العلاج على مدار عدة أشهر بحقن وريدية قيمة كل واحدة منها (20) ديناراً تقريباً لكنها لاتملكها ، وليس لها أحد يدفع قيمتها ، أذكر أن ليلتها لم يرق لي النوم لأن صوت بكائها في التليفون لم يغادر سمعي وتصوّر مشهد دموعها الحارّة على فلذة كبدها حاضر أمام عيني . عند هذا الحد أنهيت مشاركتي في ( حفلة الزّار ) المذكورة حزناً عليها وعلى غيرها ممن يماثلونها في حالها وحاجتها وعوزها فيما أموال أخرى يجري هدرها أو بعثرتها أو كما ترون وتقرأون وتشاهدون.
سانحة :
أتمنى من كل قلبي أن حساباتي المذكورة آنفاً في الـ (Calculator) خاطئة ، ولاتكون استنتاجاتي في خانة الملايين أو أنها تكون بالروبية وليست بالدينار ، لأنها إن صحّت سيكون الاستمرار في جمعها قد يوصلنا لمبالغ ضخمة ربما نكتشف أنها قد تحلّ كثرة من مشكلاتنا المعيشية والإسكانية وغيرها .