كان يامكان في قديم الزمان ، كيان للأمة الإسلامية ، ملكوا به المعمورة ، وتبوؤا بالإسلام المكانة العالية بين الدول والشعوب ، وكان لهم تضحيات أسطورية في العزّة والكرامة ورفض الدنية ، وكانت لهم بطولات وصولات مجيدة في نصرة المظلومين والذود عن حمى وأعراض المسلمين وأرواحهم ، كانت لهم هيبة بين شعوب الأرض تمنع أي أحد من التجرأ عليهم أو المساس بهم ، كائناً من كان . كانوا لايخافون أحداً ، لايتوسلون ولايتسوّلون ، يوقنون تماماً أنه لايملك مصيرهم إلاّ خالقهم . وقد سطّروا في ذلك صفحات بيضاء ناصعة في التاريخ أجدني في غير حاجة للاستشهاد ببعض أمثلتها حتى لايكون في كلامي بكاءً على اللبن المسكوب .
ثم يجور الزمان عليهم فيذهب سلطانهم وتزول دولتهم وتضعف شوكتهم وتسقط هيبتهم وينحدر ( منحناهم ) إلى حدّ التسكّع عند العماليق الكبار والتطفّل بحثاً عن الفتات والمخلّفات مما يمكنها أن تبقي على احتفاظهم بكراسيهم في الحكم فقط حتى لو جاء هذا التسكّع في صور بيع الكرامة أو ذبح قيمة الإنسان المسلم وإهدار دمه وانتهاك حرمته وإنسانيته سواء بتقديم تنازلات أو القيام بخيانات وتواطآت ذهبت ضحيتها الشعوب الإسلامية التي لم يعد لدمائها قيمة حقيقية وأهمية تُمنح لحياتهم وحقوقهم وسائر مكتسباتهم .
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ ؛ بل صنع أعداء الإسلام أغطية جديدة لحروبهم ووضعوا ( فزاعات ) وهميّة نجحوا من خلالها في انتهاك سيادة الدول الإسلامية والتدخل فيها ، وقتما شاؤوا ، وكيفما أرادوا ، بصورة تشبه العربدة العسكرية في بلداننا والقتال على طريقة ( الكاوبوي ) والذبح بأبشع الوسائل والمعدّات دونما حسيب أو رقيب ، ولا تملك الدول الإسلامية سوى الانصياع لأن ترى ذبح أبناء العروبة والإسلام كما النعاج ، ولاتحرّك ساكناً تجاههم ، والأدهى أنه قد يجري ذلك بدعم وتمويل وتسهيلات من الدول الإسلامية نفسها !!
إذا سلمنا جدلاً بأن إخواننا وأبناءنا الذين يُطلق عليهم ” تنظيم القاعدة ” إنما هم من المغرر بهم أو المخدوعين الذين نشأوا في أوساط الجماعات المتطرفة ، وإذا سلمنا جدلاً بأن هؤلاء ( مجرمو حرب ) أو ( خارجون على الشرعية الدولية ) أو ( إرهابيون ) أو ما شابهها من تهم وأوصاف يضفيها عليهم الفرنج والعلوج ، رغم يقيننا بأن الإرهاب الحقيقي موجود عند غيرهم الذين هم أساتذته وأباطرته بلامنازع .
إذا سلمنا فرضاً بكل ذلك ؛ هل يجوز لـ ( المشيئة ) الأمريكية والغربية أن تطاردهم – ” تنظيم القاعدة ” – بقاذفاتها وصواريخها في السهول كما الكهوف ، تدكّ عليهم – وعلى من معهم – مدنهم وتمحي قراهم كما في أفغانستان ، أو هل يجوز لطائراتها وبوارجها أن ( تخيط وتبيط ) في الأجواء والمياه الإقليمية تطارد ثلاثة أو أربعة من ” تنظيم القاعدة ” فتقصف وتقتل المئات والآلاف معهم معتمدة على الشّك دون اليقين ، ومعتمدة على الاتهام دون الإثبات بالدليل ، ثم تخرج من تلك الدول الإسلامية من دون حتى أن تعترض تلك الدول أو تصدر بيان احتجاج أو حتى تعزية لأولئك الذين أريقت دماؤهم وأزهقت أرواحهم بغير حق سوى أننا أعطينا هؤلاء السفاحين صكوك سماح يستخدمونها في أراضينا ويعدمون ويفتكون ببني جلدتنا كلّما أظهروا لنا ” فزاعة القاعـدة ” أو ” بعبـع الإسلاميين ” . حدث ذلك في أفغانســتان واليمـن والعـراق و( الحبل على الغارب ) .
ولأنهم من ” تنظيم القاعدة ” فإنه لاحقوق لآدميتهم ولامراعاة لإنسانيتهم ، أمام ذبحهم واغتصابهم تسكت كل الأصوات ، بل حتى في اعتقالهم وسجنهم ، فهاهي مأساتهم في غوانتنامو ؛ في زنازينها الخرســاء ، في ظروف تأنف منها حتى الحيوانات ، الموت لديهم كما الحياة ، والليل كما النهار ، والنور لايختلف عن الظلام ، وصاروا يطلبون حتى الفتوى للسماح لهم بالانتحار ليتمكنوا من المــوت والراحــة من جحيم معانـــاتهم وهـــول ما يلاقونه في تلك الزنازين التي سُجنوا فيها منذ سنوات بلا محاكمات ولا أدلة على اتهامات ، في واحدة من أقوى الدلالات على سقوط قناع حقوق الإنســـان ومواثيقه – التي يتبجح بها الأمريكان والغرب وينادون بنشرها في دولنا – عجزت حكوماتهم ودولهم حتى عن الدفاع عنهم أو المطالبة بتقديم أدلّة على تورطهم ومن ثم محاكمتهم وفق ماتقتضيه الأنظمة والشرعية الدولية وقبلها منطق العدالة والإنسانية والحرية التي يتم التشدق بها ، لا لشيء سوى أنه انطلت – عمداً أو سهواً أو جبراً – علينا فزاعة القاعدة ، فتخلينا عن انتمائهم للعروبة والإسلام ، وأرخصنا أرواحهم ودماءهم الطاهرة ، ونسينا أننا مسؤولون عنهم ، مسؤولون عن حمايتهم واحتوائهم وتعديل مسارهم وفكرهم وإعادة تأهيلهم بدلاً من تركهم لقمة سائغة للفتك والغدر بهم ، الذي هو في حقيقته غدر واحتلال وانتهاك لسيادة دولنا وتدمير لما تبقى من كرامتها ونخوتها.
سانحة :
وبسبب ” فزاعة القاعدة ” تجري الآن حرب إبادة لايعرف العالم تفاصيلها في غياهب أفريقيا ، بالضبط في جمهورية مالي ، ففرنسا ومعها دول العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية التي فضّلت أن تأخذ موقف المتفرّج ، المتفرّج لمدة تقارب السنتين على ذبح وقتل الآلاف من أبنائنا وإخواننا السوريين ، جاوز عدد شهدائهم الـ ( 60) ألف حتى الآن ؛ هي نفسها – ذات الدول – تتنادى الآن من كل حدب وصوب ، وتدخل بقضّها وقضيضها ، بعضها بالرجال وبعضها بالعتاد وبعضها بالمال من أجل القضاء على الوجود الإسلامي في ” مالي ” !!
ألم يكن من الأولى أن يكون هذا الحشد والدعم والتنادي لوقف شلال الدم في سوريا ؟!!