راصد

الناس غير في غزة ..

مهما تكلمت عمّا رأيته في غزّة فلن أوفيه حقّه ؛ لقد تشرّفت مؤخراً بزيارة هذا الجزء المبارك من أرض فلسطين ، أرض الجهاد والرباط ، نظرت في سماء غزة وأرضها ، شاهدت أحيائها البسيطة ، تجولت على أنقاض الدمار الذي أحدثه جيش الكيان الصهيوني الغاصب ، حزنت لآثار هذا الخراب على معيشة الناس هناك ، صُعقت لكيفية تسيير الغزاويين حياتهم في ظل أنهم محاصرين من البر والبحر والجو ، دمعت العيون عندما استمعت الآذان لأطفال غاب آباؤهم عنهم وراء القضبان منذ نعومة أظفارهم ، انسكبت العبرات لأيتام قضى آباؤهم شهداء واهتز الفؤاد لأرامل وثكلى غيّب الصهاينة أزواجهم أو أبناءهم وفلذات أكبادهم .

على أنني وقفت عاجزاً عن فهم أو استيعاب روح العزم والبسالة ورباطة الجأش التي تملأ المكان هنالك ، عند الصغار كما الكبار ، بالرغم من هول المشهد وأثر الجرم الصهيوني والتخاذل العربي والتواطؤ الدولي عليهم ، فما من أحد هناك إلاّ وقد ناله نصيب من الفتك به في أهله أو أقاربه أو جيرانه أو في ماله أو في بيته أو في عزيز لديه ،  ومامن أحد هناك إلاّ وهو محتاج لأن يقيم أوده وينفق على عيشه ويعبر مهالك الفقر والعوز . ولكنهم مع ذلك لايسيطر على بالهم هذا الهمّ والكدر ، ولايأتي على بالهم ، ولا ينطلق به لسانهم ؛ فقد تساموا عليه في رائعة ربما لانراها أو نتوقعها في أي مكان آخر ، وحتى فيمن هم أقلّ منهم حاجة وفقراً .

صدّقوني كان الذهول يلازمني هناك كلما وقفت أمام شباب يافع يترنمون بوطن التين والزيتون ويتوعدون اليهود ويتمنون لقاء الجيش الأسطورة أو الجيش الذي لايُهزم ، يغالبون العبرات والدموع حين يأتي ذكر المسجد الأقصى ، حينما تستمع لأحد منهم يغنيك عن سماع عشرات العلماء والمشايخ وتلامس نبرات صوته شغاف القلوب بدون أدنى تردّد. ولاتسأل عن حفظة القرآن الكريم فقد أخبرني أحدهم عن أن أعدادهم هناك بعشرات الآلاف تزين آيات الله محيّاهم ونواصيهم وتضيء بالنور وجوههم حتى أنه لا يظهر على تعابيرها أي أثر للحزن أو الإحباط أو الحاجة مع وجود دواعيه الكثيرة في ظل مأساوية أوضاعهم المعيشية والاقتصادية . سألني أحد الأصدقاء وأنا في غزة عن انطباعي هناك فلم أتردد بأن أبعث له على ( الواتساب ) : أن الناس في غزة غير الناس اللي نعرفهم ..

عندما رجعت للبحرين ؛ ظلت صور هؤلاء تلازمني وألقت على نفسي أسئلة ربما أكثرها حيرة هي ما سرّ عزة أنفسهم ورقي كرامتهم وعلوّ هامتهم وشموخهم مع تواضع معيشتهم وتفاقم حاجاتهم . ولم أجد جواباً أو تفسيراً سوى أن هؤلاء قد تركوا حياة الانبطاح والذل واستبدلوها بالعزة والكرامة التي يقذفها الله في حياة المجاهدين ، وقد قال سيد البشر المصطفى صلى الله عليه وسلّم : ” ماترك قوم الجهاد إلاّ ذلوا ” .

سانحة :

امتنع الملك نور الدين زنكي عن التبسم ، فلما سُأل عن السبب ، قال: “أستحي من الله أن أتبسم وبيت المقدس في الأسر”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s