يُحكى في التاريخ أنه بعد أن اشتدّ الخناق على كفّار قريش في غزوة بدر مشى بعض صناديدهم ورموزهم مثل عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش فقالوا لهم : ” إن محمداً قد وَتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منّا ” ففعلوا وجمعوا لهم ماشاؤوا من دعم وأموال . بل وتصدّى أو تطوّع لهذه المهمة اثنا عشر من كبارهم وقادتهم ، أطلقوا عليهم فيما بعد لقب ( المُطعمين يوم بدر) . كانوا يذبحون لجنود الكفر عشر من الجزائر ، يطعمونهم بها كل يوم ، وأمدّوهم بمئات من الأحابيش للقتال إلى جانبهم . في هذه الحادثة أنزل الله تعالى : ” إنَّ الذين كفروا يُنفقونَ أموالهُم لِيصُدّوا عن سبيل الله فسيُنفقونها ثم تكون عليهم حسرةً ثم يُغلبون والذين كفروا إلى جهنّم يُحشرون ، لِيَميزَ اللَّهُ الخبيث من الطيِّب ويجعَلَ الخبيثَ بعضهُ على بعض فيَرْكُمهُ جميعا فيجعلهُ في جهنَّم أُولئك هم الخاسرون ” . وكلّنا يعرف نصر الله المبين للمسلمين يوم بدر . غير أن هذه الآية مضت قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة ، تبين سنن جبّار السموات والأرض في الفرز والتمييز والتمحيص الذي معناه في اللغة : محّص الشيء أي خلّصه من كل عيب . ويقولون : محّص الذهب بالنار أي خلّصه مما يخالطه من الغش . وأما الفرز فإن العرب تقول : فرَز الشَّيءَ من غيره أي عزله عنه ، نحّاه وفصله ، ميَّز جيِّده عن رديئه .
مايحدث في سوريا على مدار العامين الماضيين لايخرج عن كونه تمحيص وفرز أرادت المشيئة الإلهية حصوله حتى لو ارتأينا بطول مدّته لأن تقديرات المولى عز وجل تختلف عنّا نحن البشر الذين قد نستصعب الصبر على هذا التأخير دون أن نلمس حكمة رب العالمين في ذلك .
الثورات العربية الأخرى أسقطت الأنظمة وأزاحتها في مدد قصيرة ، أسابيع أو أشهر بخلاف الثورة السورية المباركة التي لايزال مخاضها مستمراً حوالي عامين اثنين ، سقطت خلالها أقنعة وانفضحت أنظمة وصارت العمالة والخيانة والتواطؤ ممارسات على المكشوف بعدما كانت في سابق العقود الماضية من الأسرار التي لانسمع عنها أو نقرأها إلاّ في التسريبات أو بعد رحيل أبطالها ، فتكون في مذكراتهم أو حين إلقاء سيرتهم في مزبلة التاريخ .
وعلى مايبدو فإن تغييرات مابعد الثورة السورية لن تقتصر عليها ؛ ففي واقع الأمر سيتغير وجه المنطقة بأكملها ، ستتساقط أوراق التوت ، سينكشف الزيف والنفاق والدجل ، سينفضح المتآمرون والمتواطئون ، سنعرف الحماة الحقيقيون للكيان الصهيوني الغاصب . سيميز الله الخبيث من الطيب ، بل وسيجعل سبحانه وتعالى الخبيثَ بعضه على بعض ؛ ثم يَركُمهُ .. من يتابع الثورة السورية المباركة ، ويرى تأخير النصر فيها ؛ لايمكن إلاّ أن يكتشف هذه الحقيقة ، حقيقة التمحيص والفرز والتمييز ، سنّة الله في كونه وإرادته سبحانه وتعالى .. مالنا غيرك ياالله .
سانحة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لايضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ” .