في ظل التطورات الإعلامية والتقنية الهائلة التي قاربت الزمان والمكان وجعلت العالم ، شرقه وغربه ، شماله وجنوبه كما القرية الواحدة ؛ أصبح من الصعوبة إخفاء الحقيقة مهما بُذل لأجل طمسها من أموال وجهود يجري صرفها على التدليس أو التلفيق أو الكذب والمبالغات وماشابهها من ظواهر أو أمراض أحسب أنها صارت تتصدّر بعض وسائل الإعلام والصحف في عالمنا العربي بالذات ، ممن لاتفكر في المحافظة على مصداقيتها ، وتتنازل عنها لأتفه الأسباب ، إما إرضاء لتوجهاتهم ومصالحهم وانتماءاتهم وإما غفلة وجهلاً بأن مآل مصداقيتهم سرعان ما ينكشف في الاختبار المعروف للمصداقية . ونص هذا الاختبار: إذا أردت أن تختبر مصداقية فرد أو أي جهة ؛ فما عليك إلاّ أن تختار مبدأ معيناً وتراقب مدى تطبيقه في عدة مواقف وقضايا يستلزم لإثبات المصداقية وتجاوز امتحانها بنجاح الصمود على ذات المبدأ.
وبالطبع لايحتاج الإنسان – في ظل التطورات الإعلامية والتقنية الهائلة – إلى كثير عناء للتعرف على أولئك الذين ملئوا الدنيا صراخاً وتبجيلاً لألفاظ ومصطلحات كانوا يعلون من شأنها إلى درجة – ربما – التقديس ، تتعلق بالحريات والديمقراطية والرأي الآخر والتعددية وما شابه ذلك من قيم ومباديء قبل أن ينكشف ستر الله عليهم فتظهر للعيان فداحة أو فضيحة مصداقيتهم عند تعارض تلك المفاهيم والمصطلحات القيمية مع توجهاتهم ومصالحهم فيكونون في طليعة قوافل المضحين بمبادئهم وسمعتهم .
الأمثلة كثيرة ، لاتُعد ولاتُحصى – أقصد في بلداننا العربية بالذات – حتى أن المهنة الصحفية والإعلامية بسبب عدم الاهتمام بالمصداقية ؛ صارت لاتفرق بين الصحفي وناقل الإشاعة ! فالصحفي يُفترض أن يقوم قبل النشر بجهد تفرضه عليه أمانة وواجب المهنة التي ارتضاها لنفســه وتصدَى ليكون جندياَ في أروقتها ، فهو يبحث عن الحقيقة – وليس غيرها- في مظانَها ومقاصدها ليقدمها للقراء ناصعة وواضحة ، والأهم مجرَدة ، حتى لو كانت مخالفة لقناعاته أو ما كان يتوقعه ويتمناه .
بالأمس نشرت إحدى صحفنا المحلية خبراً من هذا النوع ؛ الخبر يتعلق باستعراض تقرير صادر من وكالة أنباء اسوشيتد برس يتكلم عن ” أن مقاتلين باكستانيين متشددين بدأوا بالانضمام إلى المسلحين في سوريا ضد النظام السوري بتمويل من جهات بحرينية وخليجية ” . وبالرغم من أن التقرير الصادر عن وكالة الأنباء لم يذكر أسماء تلك الجهات الممولة إلاّ أن هذه الصحيفة أبت أن تُظهر توجهها وتبرز انتماءها عند استعراضها لهذا التقرير فتربط بينه وبين خبر آخر يتعلق بأن جمعية الأصالة البحرينية استطاعت تسليح (1640) مقاتلاً في سوريا .
الربط بين الموضوعين لم يكن أميناً ، بل كان مليئاً بأغراض أخرى بدءاً من صياغة العنوان ليظهر للقراء كالتالي : ” وفدٌ من الأصالة أعلن قبل أيام تمويل تسليح 1640 مقاتلاً .. مقاتلون باكستانيون إلى سورية بأموال بحرينية وخليجية ” ومروراً بدمج الموضوعين : تقرير وكالة أنباء أسوشيتد برس صادر من باكستان وخبر محلي سابق يتحدث عن حملة مساعدات إلى سوريا قامت بها جمعية التربية الإسلامية تمكنت من تسليح نحو (1640) من المقاتلين في سورية ، من خلال توفير التمويل لهم لاستخدام الأسلحة والذخائر.
ثم تواصل الصحيفة في ربطها بما يفيد أو يوحي أن الموضوعين يتعلقان بشيء واحد ، أي أن المقاتلين الباكستانيين الوارد ذكرهم في تقرير وكالة الأنباء ، هم من الـ (1640) مقاتلاً الذين تم تجهيزهم من المساعدات والتبرعات التي تم جمعها من أهل البحرين !
الصحيفة أيضاً بذلت جهداً غير قليلاً في استعراض المساعدات التي قدمتها جمعية الأصالة للشعب السوري بصورة تدفع أن هذه المساعدات لاتذهب في مصبها الإنساني والإغاثي ثم قامت الصحيفة بمحاولة استعداء الدولة ممثلة في وزارات الداخلية والخارجية والتنمية الاجتماعية على هذه المساعدات وضرورة وقفها ، وبالطبع التقت بشخصيات حقوقية تستغرب صمت الجهات الرسمية عن هذه المساعدات التي – حسب تعبيرهم – تؤجج القتال في سوريا . بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فتطرّقت إلى استشهاد ( مقتل حسب تعبيرها ) عبدالرحمن نجل خطيب جامع النصف الشيخ عادل الحمد في المعارك الدائرة بسورية . ولاحظوا أن كل ذلك في خبر وصياغة واحدة رغم أن الموضوعين مختلفين لكن تم الربط بهما على هذا النحو لحاجة في نفس يعقوب .
بقي أن نشير إلى أننا كنا نتمنى بحسب مقتضيات المصداقية أن يشمل هذا الخبر المطوّل والمفصّل ( الموحد ) و( المتعوب عليه ) مايتعلق ببحرينيين آخرين يقفون مع النظام السوري ، يقاتلون إلى جنب شبيحته وتتناقل المصادر الأخبارية – أيضاً – تقارير عن وجود معسكرات لتدريبهم في الفيالق التي تعرفونها .
سانحة :
بينما نحن نأكل في هذه الأيام المباركة مالذّ وطاب من الطعام والشراب؛ لايجد إخواننا في حمص وعموم سوريا مايسدّ حتى رمقهم ، وتتحدث تقارير أنهم هناك يأكلون حتى العشب الذي في الأرض .. حسبي الله ونعم الوكيل .