لله درّك ياالفاروق ؛ فقد أسست في فترة خلافتك مباديء في الحكم العادل سيظل يرجع إليها الناس إلى يوم القيامة ، ينظرون إليها بإعجاب ويتمنون حدوث ولو جزء يسير منها في واقعهم ، ويتطلّعون إلى أن يقلّدك حكامهم في شيء منها ، في شيء من الحرص والورع والتقوى . يُروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه رأى ذات مرة عمر بن الخطاب يغدو باحثاً عن شيء ، فقال له: يا أمير المؤمنين، إلى أين؟ فقال: بعير ندّ من الصدقة أطلبه – أي يبحث عن بعير هارب من بيت مال المسلمين – فقلت: لقد ذللت الخلفاء بعدك يا أمير المؤمنين. فقال: لا تلمني يا أبا الحسن، فوالذي بعث محمداً بالنبوَّة لو أن سخلة ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة إنه لا حرمة لوالٍ ضيّع المسلمين”.
ويُروى في صفحات السجل الناصع البياض لتاريخ حكاّم المسلمين حادثة شهيرة أخذت عنواناً حمِل ذات الشهرة ، وهو ” أيتولى أمرنا ويغفل عنا ” . تقول الحادثة أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ذات ليلة يطوف كعادته وقد كان مهتما بأمور الرعية صغيرها وكبيرها ، وكان معه خادمه واسمه ( أسلم ) فإذا نار تسعّر فقال : يا أسلم ما أظن هؤلاء إلا ركباً قصُر بهم الليل والبرد ، فلما وصل مكانها قال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء -وكره أن يقول يا أهل النار- ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت المرأة : يتضاغون من الجوع قال: فأي شيء في هذا القدر قالت : ماء أسكتهم به ، وأوهمهم أني أصنع طعاما حتى يناموا والله بيننا وبين عمر فقال: يرحمك الله وما يُدري عمر بكم قالت: أيتولى أمرنا ويغفل عنا.
فبكى عمر رضى الله عنه ورجع مهرولاً فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم وقال لأسلم أحمله على ظهري قال أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين ، فقال: أأنت تحمل وزري يوم القيامة ؟ فحمله حتى أتى المرأة فجعل يُصلح الطعام لها بنفسه ، وجعل ينفخ تحت القدر حتى نضج الطعام ، فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها ، فأكل الصبية حتى شبعوا ، وجعلوا يضحكون ويتصارعون ، فقالت: المرأة جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من عمر ، فقال لها عمر: قولي خيرا .
كثيرة هي الأمثلة التي جالت في الفكر ونحن نطّلع على أحوال إخواننا في سوريا الذين ضرب البرد هذه الأيام أطنابه في ربوعها، فامتلأت شوارعها وطرقاتها بالثلوج وانتشر الصقيع بينما أهلها موزعون مابين عشرات الآلاف من الشهداء الذين ارتقت أرواحهم إلى بارئها تشكو تخاذلنا وتواطئنا وتؤامرنا على أن يُذبحوا بأيد جزّارين لم نستطع وقفهم ومنعهم ، ومابين جوعى لايجدون مايسدّون به رمقهم فأباح لهم علماءهم أكل لحوم القطط والكلاب ، ومابين مشردين ولاجئين عراة في هذا الشتاء القارس الذي تدنت درجة الحرارة فيه إلى ماقبل الصفر ، مات الأطفال والمسنون وظهرت صورهم موتى متجمدين في مشاهد تقشعرّ منها الأبدان ويذوب لأجلها الصخر ، حزنا وكمداً . لانشك إطلاقاً أن جبّار السموات والأرض سيحاسبنا عن مواقفنا وأعمالنا – حكاماً ومحكومين – عن هؤلاء ، من أبناء جلدتنا الذين يُحاصرون ويجوّعون ويُقتلون الآن في بلاد الشام .
سانحة :
يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، في ساعة خوف من الله : ” لو أن بغلة ً في أرض العراق عثرت ، لخشيت أن يسأل الله عمر يوم القيامة : لِمَ لَمْ تمهّد لها الطريق يا عمر؟ ” . لله درّك ياعمر ..