راصد

يستخفون من الناس

البعض في سبيل الدفاع أو الانتصار لمن يحب والعداء لمن يكره ويختلف معهم ؛ يُصاب بالتعصّب الذي – ربما – يُفضي به إلى حالة من العمى تضيع فيها بوصلته ، فينسى مواقفه ويتخلى عن مبادئه وقد ( يستحمر ) نفسه ، ويمضي بعيداً في سلوكه بحيث لا يضع حتى أي خط رجعة يمكنه التشبث فيه ، ليس بعد تغيّر الأحوال فحسب ، لا ، وإنما استعداداً للوقوف في فضاء الحق ، أمام الله عز وجل الذي أنزل آية قرآنية عظيمة تُتلى إلى يوم القيامة في هذا الشأن – شأن ألا نكذب وندلّس ونتهم الآخرين لمجرّد اختلافنا وعدم توافقنا معهم – يقول فيها : ” هاأنتُم هؤلاءِ جَادَلْتُم عَنهم في الحَياةِ الدُّنيا فمَنْ يُجادلُ اللَّهَ عنهُم يومَ القيامةِ أَم من يكونُ عليهِم وكيلًا “.

الآية الكريمة تتعلق بقصة بطلها اثنان : أحدهما مسلم والآخر يهودي ، نعم وأكرّر يهودي . تدور أحداثها في أن رجلاً من الأنصار يقال له: طعمة بن أُبَيْرق، سرق درعاً من جار له يُقال له: قتادة بن النعمان؛ وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب، حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق. ثم خبأها طعمة بن أُبَيْرق عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين؛ فالتمس الناس الدرع عند طُعْمَة اعتماداً على تتبعهم لأثر الدقيق الذي أوصلهم إلى بيته فلم توجد عنده، وحلف لهم والله ما أخذها وما له بالدرع المسروق من علم. فقال أصحاب الدرع: بلى والله قد أَدْلَجَ علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق: فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي، فأخذوه فقال: دفعها إِليَّ طُعْمَةُ بن أُبَيْرِق، وشهد له أناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر – وهم قوم طعمة -: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلموه في ذلك واطلبوا منه أن يجادل عن صاحبهم طُعْمَةُ  ضد اليهودي ، وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبُرئ اليهودي، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل – وكان هواه معهم – وأن يعاقب اليهودي على الجريمة ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية القرآنية العظيمة ضد الذين دافعوا عن صاحبهم ( طعمة ) وهم يعلمون ارتكابه للجريمة وأرادوا تبرئة ساحته وتنظيف يده وإلباس التهمة لليهودي والتحريض عليه مع تيقنهم ببراءته لولا أن تعصبّهم لصاحبهم دفعهم للكذب والافتراء ظنّاً منهم بأن الأمر ينتهي في هذه الدنيا ، بالدفاع أمام بشر عن بشر ولكنهم بالتأكيد لن يستطيعوا أن يكونوا كذابين ووكلاء في الدفاع عن المجرم الحقيقي يوم القيامة أمام علاّم الغيوب ..

سانحة :

لقد صار الكثير من الناس في ظل زحمة الحياة وتنامي مشاغلها وحاجاتها يسمحون لأنفسهم أن يتخلوا عما بداخلهم من قيم ومباديء وأصبح بالإمكان أن يتلوّنوا وفقاً لمصالحهم وتبعاً لإشباع حاجاتهم . وقد يخونوا أنفسهم ويضحكوا عليها بداخلهم ، بل وقد يبوحوا لأقاربهم وأصدقائهم فيعترفوا بأنهم كذابين وأفّاكين . لايهمّهم أن يبقى لونهم أبيض أم ملطخ بالسواد طالما أن المال أو الجاه أو المنصب أو ماشابهه من أثمان البيع – بيع الذمم والضمائر – هي محرّك الكذب والنفاق والتطبيل والتدليس ظناً منهم أن الدنيا التي يعيشونها هي دار الجزاء بينما هي محطة انتظار وعبور إلى الرحاب الواسعة للعدل والقصاص في يوم القيامة عندما تجتمع الخصوم فتُعرض الأعمال والأقوال أمام من يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور ، سبحانه جبار السموات والأرض . تلك هي الحقيقة التي تغيب عنّا ، غفلة أو جهلاً أو قسراً ، أو أن بعضنا لايريد أن يتذكرها فقد تنغّص عليه عيشته وطريقة حياته وسلوكه وكسبه و( حصّالته ودرّته) . قال تعالى : ” يستخفون من الناس ولايستخفون من اللّه “.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s