من المفارقات العجيبة التي نلمسها اليوم هو أننا نأنس ، وربما نفزع للفرح والإشادة حينما نعرف أو نسمع بألفاظ لصفات وأخلاق وأنماط سلوكية طبيعية وعادية ومفترضة في حياة الناس وممارساتهم لمسؤولياتهم وأدوارهم وأعمالهم وكأنها قد صارت هي الاستثناء التي يجب أن تكون محلاً للمديح والإطراء ، وهي الشيء الغريب والعمل النادر أو الغائب الذي يستدعي الإشارة إليه والإشادة به وكأنما عكسه هو المتعارف عليه والسائد في حياتنا بحيث أن خلافه يكون أمراً يستحق التنبيه عليه .
قيم كثيرة ، مثل الصدق والموضوعية والنزاهة والأمانة والتواضع وماشابهها من سلوكيات أصبح من غرائب هذا الزمان أن تكون شبه مضطراً كلما صادفك تجسدها – كلها أو إحداها – في شخص ما أن يسيل كلامك أو حبْر قلمك مدحاً وثناء وإعجاباً بهذا الشخص حتى صار الأمر إلى درجة الخوف من أن تكون مثل هذه القيم في الطريق إلى الانقراض ومهددة بالأفول في دنيا الناس وتستلزم المحافظة والتشجيع عليها بذكرها كلما تم مصادفتها ، وإثبات أنها لاتزال على قيد الحياة .
هي ظاهرة غريبة ، أن يكون الأصل هو الاستثناء ، قد لا يشعر الكثيرون بهذه الظاهرة ، لالشيء سوى أننا ألفنا هذا المشهد الغريب من كثرة سماع قصص وحكايات وأحيانا شائعات – لافرق – عن الفاسدين والسرّاق والكاذبين و( الهوامير ) و… إلى آخره من قائمة أوصاف أصبحت – للأسف الشديد – هي الغالبة والدارجة والمتعارف عليها ، وقد يزيد من الطين بلّة والأمر سوءاً حينما يرتقي من هؤلاء السلالم ويتخطون معاييرصعودها بحيث أن تلك القيم والسلوكيات (الصدق والموضوعية والنزاهة والأمانة … إلخ ) لم يعد لها حساب في تلك الشروط والضوابط ، حتى إذا ماجرى صعود أحد المتمتعين بها خرجنا للإشادة والسعادة به متمنين له دوام التوفيق والنجاح وكذلك بقائه على قيمه ومثالياته النادرة ، التي أصبحت محل استثناء بعدما كانت هي الأصل ، وهي الشأن الأخلاقي المفترض الذي لايحتاج إلى الإطراء والمدح لولا أن ( الوقت غير ) !!
سانحة :
يقولون في الأمثال “راح يستعير قرنين فعاد مصلوم الأذنين !” وقد تم استقاؤه من قصة حمار – أجلّكم الله – سئم من جبنه وغلبة أمره وتفوّق كثيرين عليه فما كان منه إلاّ أن فكّر في الاستعانة من الغابة بقرني ثور هائج ، معتقداً بأن حصوله على هذين القرنين سيمكّنانه من التغلب على أعدائه ومنافسيه لكنه اكتشف بعد ذلك أنه تم قطع أذنيه نتيجة هذه المغامرة ، فعاد بدونهما . وقيل أيضاً أنه عاد من الغابة مبتور الذيل ، الأمر الذي أضاع بسببه بوصلة توجهاته وأصيبت سائر حركاته بهستيريا البحث عن المعالم الهامة المفقودة من جسده وشخصيته .