في تاريخنا الإسلامي المجيد ، في صفحاته الناصعة البياض ، قصص وأحداث ، أسست لممارسات في الإدارة والحكم ، ورسخت أسس التعامل في المجتمعات بين الحاكم والمحكوم ، بل مع أطياف المجتمع بكل تنوعاتهم واختلافاتهم . يجدر بنا الرجوع إليها بين حين وآخر ، نتأملها ونقف على معانيها السامية ، ثم نقارنها بأحوال وممارسات مثيلة ، وبعدها لانملك إلاّ أن نندب حظوظنا وتعثرنا وابتعادنا عن مجاراة أو استحضار تلك القيم من تاريخنا التليد ، واستمرار الركض وراء مفاهيم ومصطلحات مستجدّة من هنا أو هناك ، وبمسميات متنوّعة نكتشف أن أصولها وجذورها إنما تعود لممارسات سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ، ممن سطّروا أنقى الصفحات في تاريخ الإنسانية والعدالة .
من ذلك مايروى في تاريخ الاغتيالات السياسية أن عبداً نجاراً حداداً في المدينة المنورة كان يصنع الرحاء ( جمع رحى ) وهي آلة لطحن الشعير ، وهي عبارة عن حجران مصفحان يوضع أحدهما فوق الآخر ويطرح الحب بينهما ، وتدار باليد ، فيطحن . أخذ هذا العبد الذي يدعى أبولؤلؤة المجوسي يتحين الفرص للانتقام من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فلقيه عمر يوماً في طريق فسأله وقال : حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح ؟! فالتفت العبد عابساً إلى عمر .. وقال : بلى .. لأصنعن لك رحى يتحدث بها أهل المشرق والمغرب ، فالتفت عمر إلى من معه ، وقال : توعدني العبد . ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان ، مقبضه في وسطه ، فهو إن طعن به من هذه الجهة قتل ، وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل ، وأخذ يطليه بالسم ، حتى إذا طعن به يقتل إما بقوة الطعن أو السم . قيل حينها لابن الخطاب احذر من تهديد المجوسي ووعيده بالقبض عليه ، فلم يفعل الفاروق ذلك متعللاً بأنه لا سلطان لي على نيّاتهم وسرائر أنفسهم ! ” عدالة الفاروق عمر رضي الله عنه منعته من اعتقال قاتله بناء على الشكوك بنياته بينما في وقتنا الحاضر ؛ تقع كثير من المظالم استناداً على الظنون ومحاكمة النيات والسرائر التي لايعلمها إلاّ المولى عز وجل .