في سابق الأيام ، في الزمن القديم ؛ كانت الأحياء و( الفرجان ) واحات رحبة وساحات واسعة يلعب الأطفال ويمرحون فيها في الصباح كما المساء ، من دون خوف أو (محاتاه) من الوالدين والأهل ، فالناس متقاربون ، يعرفون بعضهم بعضا ، بل يعرفون الرجل وأبنائه وزوجته وحتى أمه وأبيه ، يعرفونهم بأسمائهم وأشكالهم ، كانوا لا يخشون على أحد من الضياع أو الاعتداء . كانت بيوت الناس مفتوحة ، نادرا مايعرفون أقفالها ، وربما ينامون وأبوابهم غير موصدة ونوافذهم كذلك .
في تلك الأيام الجميلة ؛ ليست البيوت هي المفتوحة فقط وإنما القلوب ومقل العيون أكثر سعة ، لايمكن ان ينام الجار أو أحد في ( الفريج) وهو جائع أو محتاج ومن النادر أن يأكل أحدهم (لقمته) من غير أن يظهر منها شيئا لأحد جيرانه . وفي رمضان المبارك ؛ ما أن يحين وقت ماقبل صلاة المغرب حتى تدب في تلك (الفرجان) حركة دؤوبة تتوزع فيها ( صحون ثريد وهريس وخنفروش و…) على الجيران والاقارب ، ويحدث ذلك كأنما هو عرف أو لازمة من لوازم صيام شهر الله المبارك ، ويحدث ذلك على بساطتهم وقلة مافي أيديهم آنذاك لولا أن بركة ذاك الزمن الجميل لم تترك لأحد مجالا للشكوى أو البخل أو ماشابهها من أمراض الشح والجشع والصد.
جمال تلك الأيام كانت أيضاً في فزعة الناس للمريض أو المصاب أو السائل والمحتاج والمظلوم بشكل يجعلهم كأنهم عائلة واحدة ، لاتعرف غنيهم من فقيرهم حيث كانت صفات الغرور والتكبر ومعها أمراض الكذب والخيانة والنفاق لاتعرف طريقها إلى أولئك الناس في ذاك الزمن ذي الصيت الحسن الذي نتحسر الآن عليه ، حتى الأجواء كانت تطرب آنذاك على صوت هديل الحمام وتغرد فيها البلابل والعصافير ، وتفوح في تلك ( الفرجان) روائح المشموم والياسمين ، وإذا حل المساء تملأ آفاق تلك ( الدواعيس ) روائح البخور والعود واللبان .
مامن أحد من آبائنا أو أمهاتنا أو من رعيل تلك الأيام إلا ويذكرها والدموع تفيض من مآقي عيونهم ، شوقا وحنينا لها بعدما جرت المياه وتبدلت الأيام وزالت أو اختفت وقلت قيم التواصل والتراحم وضاقت النفوس واغلقت البيوت وغاب تغريد البلابل وجاء نعيق الغربان .
سانحة :
اليوم صارت مفردات لحوادث مثل قتل أو احتراق أو اعتداء أو اغتصاب أو غرق أو دهس أو مثلها ؛ أمورا معتادة وشبه يومية ، نقرأها أو نسمع عنها فلا تؤثر فينا ولاننتبه لها ، وذلك على خلاف ردات فعل الناس عليها في زماننا السابق الجميل الذي لم تكن مثل تلك المفردات – أصلا- معروفة أو شائعة الاستعمال ، كما هو حالها اليوم .