نحتاج في هذه الأيام العصيبة التي تمرّ على أمتنا العربية والإسلامية أن نغرس في أبنائنا أن الأوضاع الطبيعية في حياة المسلمين تقتضي أن تكون قيم التكافل وواجب النصرة وأنفة العزة هي السائدة ، وهي الممارسة العادية النابعة من تعاليم الإسلام الذي ننتمي إليه فضلاً عن أنها انطلاقة فطرية تعززها أواصر الرحمة والارتباط الإنساني الوثيق في مسائل نجدة المظلومين وإنقاذ المستضعفين .
يجب أن نقول لأبنائنا أن حياة المسلمين كانت قائمة على حفظ الأرواح والأعراض والأموال في كل مناحي دولتهم ، على اتساعها وامتدادها ، دولتهم التي قال عنها ذات يوم خليفتهم هارون الرشيد حينما رأى غيمة في سماء بغداد تنطلق بعيداً : ” أمطري حيث شئت ، فسيأتيني خراجك ” .
وأقترح على الأمهات والآباء أن يجمعوا في هذه الأيام أبنائهم وأحفادهم ليرووا لهم قصصاً وأحداثاً من تاريخنا الإسلامي المجيد ، في صفحاته الناصعة البياض حول انتصار المسلمين لبعضهم البعض ، وحول أنهم تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على من سواهم . ينبغي أن نتحدث لأبنائنا أن ما يرونه اليوم من ذلّ وخنوع أو عمالة وخيانة أو تواطؤ وتآمر مع المحتلين والغاصبين والجزارين في ديار الإسلام ، وأن مايرونه من تلاشي أو انعدام ( فزعة ) النصرة وغياب ( هبّة ) الدفاع عن الأرواح والمقدسات ، وأن مايقرأونه أو يسمعونه من بعض بني جلدتهم بشأن انهزاميتهم وانبطاحيتهم ورضاهم وربما فرحهم وشماتتهم بدماء وأشلاء أهلنا في غزة ، وأن مايشاهدونه من قتل وذبح وسفك لدماء المسلمين من دون رادع أو خوف ، ؛ كل ذلك إنما هي صفحات سوداء سيجري طيّها ورميها – هي وأصحابها – مجلجلة بالعار والشنار في سلال القاذورات والمهملات ومزابل التاريخ ، باعتبارها حالات بائسة وشاذة في حياة المسلمين ، وخارجة عن مألوف نهجها ومعيشتها ، وبعيدة عن أعرافها وعاداتها ولاتمت بصلة لشهامتها ونخوتها.
أبناؤنا يجب أن يعرفوا – على سبيل المثال – أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أمر ذات مرّة أصحابه رضوان الله عليهم في وقت صلاة الظهر بأن لايصلّيها أحد إلاّ في بني قينقاع ! لالشيء سوى نصرة لمسلم تم قتله وامرأة جرى انتهاك عرضها ، وذلك في القصة المعروفة عن طرد يهود بني قينقاع من المدينة المنورة . حيث أنه في ذات يوم ذهبت امرأة مسلمة إلى سوق بني قينقاع لبيع ذهب معها، فاحتال عليها اليهود لتكشف وجهها فأبت، فأخذ الصائغ طرف ثوبها، وربطه إلى ظهرها – وهي لا تعلم- فلما قامت انكشفت عورتها، وأخذوا يضحكون منها، فصاحت المرأة تستغيث بعد أن طُعنت في كرامتها، فوثب رجل مسلم على اليهودي الذي أهان المرأة فقتله، فقام اليهود بقتل ذلك المسلم، فكان شهيدًا في سبيل الله، فلما علِم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكان وقتها حينذاك صلاة الظهر أمر أصحابه رضوان الله عليهم بقتالهم وألا يصلي أحد الظهر إلا في بني قينقاع ! فجاءهم صلى الله عليه وسلم وحاصر هؤلاء اليهود في حصونهم حتى طردهم من المدينة المنورة ، وذلك فقط لأن يهودياً ربط طرف ثوب امرأة مسلمة إلى ظهرها.
ولاتنسوا – أيها الآباء والأبناء – أن تذكروا للأبناء قصة الخليفة المعتصم بالله مع تلك المرأة التي استنجدت به حيث يخبرنا أن صاحب عمورية من ملوك الروم كانت عنده امرأة عربية مأسورة ، فعذبها حتى صاحت : “وامعتصماه ” فسمع بذلك المعتصم . وعند ابن خلدون ؛ أن الخليفة المعتصم لمّا بلغه هذا الخبر كان على سريره وأنه كان بيده كأس ليشربه فقال : لبيك .. لبيك ورد الكأس وقال : لاشربته إلا بعد فك هذه الشريفة من الأسر وقتل العلج ، وصاح المعتصم في قصره : النفير النفير .
وكتب المعتصم لملك الروم قبل الغزو: ” من أمير المؤمنين المعتصم بالله إلى كلب الروم ، أما بعد، إذا جاءتك رسالتي فانتظر جيشاً أوله عندك وآخره عندي . وخرج على رأس جيشه فلما فتح عمورية دخلها وهو يقول : لبيك لبيك ، وطـلب العلج صاحب الأسيرة وضرب عنقه ، وفك قيود الأسيرة .
حكايات ومواقف كثيرة لابد أن يجري جمعها وعرضها ، وأن يتولاها الدعاة والمربون بالشرح والدرس للناشئة ، يثبتوا من خلالها أن هذا هوالأصل في حياة المسلمين ، تاريخهم يثبت ذلك ، ليس في القديم وحسب ؛ وإنما حتى تاريخنا الحديث حيث من الواجب ألاّ نفوّت على أجيالنا التعرف على تاريخ 17 أكتوبر عام 1973 حينما أعلن الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود حظر إنتاج البترول وقال كلمته الشهيرة التي هزت العالم وأوقفت سير حركة التاريخ آنذاك : ” إننا على استعداد أن نحرق البترول ونعود لعصر الجمل والخيمة ” احتجاجاً على الدعم الغربي للصهاينة ، وذلك في واحدة من أكبر دلالات العزة والكرامة في تاريخنا على أن المعتصم يحتلّ في الوجدان العربي والإسلامي مكانته ، قديماً وحديثاً ، ولا يتعلق أو تنحصر نماذجه على عهود الصحابة والخلفاء والفاتحين الأوائل .
صدقوني لاتبخلوا على ممن تسترعون تربيتهم وتعليمهم بمثل هذه القصص التي تثبت أن الانتصار للأرواح والدماء والأعراض هي أصل أساس في حياة المسلمين وأن ماسوى ذلك هو انحراف أقرب إلى الزبد الذي سيزول وسيذهب جفاء .
سانحة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم” .