يزخر وطننا العزيز بالكثير من الشخصيات المخلصة التي تعمل ليل نهار من أجل رفعته والمحافظة على مكتسباته ، مثل تلك الشخصيات لاتحرص على الظهور ولا يهمها تسليط الأضواء عليها ، ولايزيدها أو ينقص من قدرها إن ذكرها جمال زويد أو غيره في أعمدتهم الصحفية أم لم يذكروها لأن إخلاص تلك الشخصيات في أعمالهم أكبر من ذلك بكثير . ولقد حرصت دائماً أن تكون كتاباتي عن أي من الشخصيات مبرأة من أية أغراض قد يفهمها البعض من باب النفاق والتزلّف . واعتماداً على هذا الحرص ، وخوفاً من سوء التفسير؛ فقد آثرت في كثير من المواقف عدم الكتابة عن شخصية كبيرة لها هامة عالية في الوطن ومكانة غالية في النفس لطالما تمنيت أن يكون لأعمالها وإنجازاتها والثناء عليها ، بل والدفاع عنها أمام إساءات عدّة ، النصيب الأوفر في عمودي المتواضع . أمَا وأنّه قد قرّر الخروج من المشهد النيابي ؛ فقد آن لقلمي أن يسيل تعبيراً عن حبّنا له وتقديراً لدوره ووفاءً لعلاقة ربطتني معه تقارب الـ( 22 ) عاماً كانت كما بين الأب وابنه ، وليست بين موظف ورئيسه .
كان أول معرفتي ولقائي مع الوالد الفاضل خليفة بن أحمد الظهراني يرجع إلى العام 1992م عندما كنت مراقباً للجان في مجلس الشورى وأميناً لسر لجنة الشؤون التشريعية والقانونية التي كان ( بومحمد ) أحد أعضائها وأعمدتها ، وبالنظر إلى روحه الطيبة وسماحة أخلاقه وسموّها والتزامه وحرصه وحيويته فقد نشأت بينه وبين سائر الموظفين علاقة قائمة على الود والاحترام لايساورني الشك – إطلاقاً – في أنها السمة الغالبة التي يشعر بها الجميع إزاء ( بومحمد ) الذي أحسب أن لا أحد يملك مثل جهده وطاقته في التواصل مع الناس ، في أفراحهم وتعازيهم ومرضهم ، ولاأحد مثله يفتح مكتبه ومجلسه للمواطنين ، صغيرهم وكبيرهم .
تشرفت قبل بضعة أعوام بحضورلقاء جمع الوالد الفاضل خليفة بن أحمد الظهراني مع مجموعة من الطلبة الجامعيين الذين جاؤوا إليه يريدون الاستماع إلى تجربته ويستفيدون من خبرته مايمكنهم أن يستعينوا بها في رسم مستقبل القادم من حياتهم . لقاؤهم كان ضمن برنامج – حسبما أتذكّر- قد أعدّوه لزيارة عدد من الشخصيات ذات المناصب العامة في البلد بغرض تعظيم الاستفادة والاستزادة لهم ، وهم في مقتبل أعمارهم .
وأمام هذا الرجل الذي اعتاد من يتعامل معه أو يقترب منه أن يسمّيه بـ ( الرجل الحكيم) ؛ كانوا يترقبون منه كلاماً عن ذكريات الدراسة أو المناصب التي تقلّدها أو الأعمال التي شغلها أو تجارب سفره وتنقلاته . كانوا ينتظرون منه حديثاً عن إنجازات – وربما بطولات – أو ما شابه ذلك مما يحرص الكثيرون في العادة على بيانها أمام الآخرين عن حياتهم وخبراتهم . لكنهم لم يتوقعوا من هذا الرجل الذي يقترب من العقد السبعين من عمره المديد إن شاء الله ؛ أن يسلب ألبابهم ويثير إعجابهم ويلقنهم درساً بالغ الأهمية في المثابرة والجدية ويعرّفهم العصامية حينما بادرهم بافتخاره بأنه في بداية حياته كان عاملاً عادياً في شركة بابكو التي يسمونها آنذاك ( الفاينري ) مؤكداً لهم أن أفضل الأعمال هو أن يكسب الإنسان بيده ومن عرق جبينه . شرح لهم أول يوم عمل له في هذا المكان ( الفاينري ) وبيّن لهم أنه حينما عاد إلى البيت وهو يلبس ( البلر سوت ) جثا على ركبة والده رحمه الله ، وقبّل يده عرفاناً بفضله وتربيته له ، كان يذكر هذا الموقف أمام الطلبة وهو يغالب دموعه مخلصاً لهم النصيحة بالبرّ للوالدين .
بعض الحمقى ومفرّغي ما في النفس من ضغائن وأحقاد ، وضمن حملاتهم على رموزنا الوطنية ، شتماً وتطاولاً ، وكذباً وتدليساً اختاروا بعض المرّات تلك المهنة للإساءة للظهراني (ضمن إساءات أخرى له ولعائلته ) وتعييره بها واعتبارهم لها – بحسب فهمهم القاصر- سبّة ومنغصة دون أن يعرفوا أن الظهراني يعتبرها مفخرة ، لا يخفيها ولا يتردّد عن ذكرها . ويعتبرها الأسوياء من الناس قصة كفاح ونجاح ونموذج فذ للعصاميّة يحدثون به أبنائهم ويقولون لهم اعتمدوا على أنفسكم وانخرطوا في كل الأعمال ولاتعيبوا أي مهنة شريفة أو تستصغروا من شأنها .
مواضع كثيرة وأثيرة لايستطيع (بومحمد) أن يغالب دموعه إزاءها ، أحسب أني أعرفها وأتوقعها في عدد من المواقف ، منها عند ذكر والديه رحمهما الله تعالى مثلما أسلفت في لقائه بالطلبة ، ومنها عند ذكره حبّه لوطنه مثلما لم يتمالك دموعه في كلمته بالجلسة الأخيرة من الفصل التشريعي الثالث عندما قال : ” لقد سعيت من مكاني هذا على الدوام أن أكون خادماً للوطن والمواطنين، بذلت وسعي وجهدي ، ويشهد الله أن مرضاته سبحانه وتعالى ثم مصلحة البحرين، كانت وستظل هي الهدف لي “.
حب الناس وعشق الوطن عند الوالد الفاضل خليفة بن أحمد الظهراني هي حياته اليومية التي أخلص لها من أعماقه وأعطاها كل شيء ، وأحبها وأحبّ التضحية لأجلها. فكانت النتيجة هذا السجل الحافل من العطاءات والإنجازات المتواصلة ، التي أفنى لأجلها ريعان شبابه وبذل لجمعها سني حياته المديدة إن شاء الله .
في بداية السبعينيات اكتسب الظهراني شرف عضوية أول مجلس منتخب في البلد حينما كان أحد الفائزين بتمثيل منطقتهم في المجلس الوطني عام 1973 . وفي التسعينيات أنشأت القيادة الحكيمة للبلد مجلساً للشورى يضم رجالات البلد وأخيارها وحكماءها والمخلصين لها ، وكان الظهراني محل الثقة والتقدير والاختيار المتكرر لثلاث دورات متتالية ، هي عمر مجلس الشورى منذ تأسيسه وحتى العام 2001 .
ثم انتخبه الناس لتمثيلهم في ثلاث دورات انتخابية متتالية منذ العام 2002 لعضوية مجلس النواب ، وبسبب مكانته واحترام الناس له ؛ يتنازل الكثيرون من ذوي المكانة والكفاءة في دائرته الانتخابية ويحجمون عن ترشيح أنفسهم معه ، سواء من الجمعيات أو المستقلين ، بل من رشّح نفسه هذه المرّة استأذنوا من ( بومحمد) بعدما تأكد لهم نيّته عدم الترشيح .
وانتخبه النواب لرئاسة مجلسهم النيابي لذات الدورات البرلمانية ذاتها على مدار اثني عشر سنة . وكانت له مواقف بارزة وحاسمة وقدّم مقترحات وأعمال نوعية من أهمها اقتراحه تأسيس صندوق لاحتياطي الأجيال القادمة حيث يؤخذ دولار واحد من سعر كل برميل بترول لصالح هذا الصندوق الذي تم الموافقة على إنشائه وفقاً لاقتراح ( بومحمد ) وتجاوز ماتم تحصيله فيه (412) مليون دولار حتى الآن ، هي لصالح الأجيال القادمة. ولو لم يكن للظهراني من أعماله البرلمانية إلاّ هذا الإنجاز لكفاه فخراً .
وإبّان الأحداث المؤسفة التي مرّت بالبلاد وقرر جلالة الملك المفدى تدشين حوار التوافق الوطني نال الظهراني ثقة جلالته وأسند إليه رئاسة وإدارة هذا الحوار الهام الذي يعدّه المراقبون أنه أحد أهم الخطوات الملكية السامية التي حفظت مملكتنا الغالية من الانزلاق في أتون المجهول .
ولأن عمل البرلمانات لايقتصر على الداخل فقط – رغم أنه الجزء الأكبر – وإنما يمتد لتمثيل البحرين في الخارج وتنسيق السياسات والمواقف فيما يشبه مايُسمى الدبلوماسية البرلمانية ؛ فإنه يُحسب لـ ( بومحمد ) إنجازان في هذا الإطار : أولهما : أنه سعى منذ استلامه رئاسة مجلس النواب في العام 2002م سعيه لأن ينال هذا المجلس عضوية أكبر منظمة برلمانية دولية ، وهي الاتحاد البرلماني الدولي حيث بذل الكثير من الجهد والاتصالات مع عدد من رؤساء البرلمانات من مختلف دول العالم تم تتويجها بقبول عضوية البحرين في هذا الاتحاد الهام . وثانيهما : دعوته لأول اجتماع لأصحاب المعالي رؤساء مجالس الشورى والوطني والأمة والنواب بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية انطلاقاً من حرصه على التواصل في الكيان الخليجي وزيادة أواصر العلاقات المشتركة بين برلماناتها ، وبالفعل انعقد الاجتماع في رحاب مملكة البحرين 10بتاريخ أبريل 2004م. وبعد أن وافق المجلس الأعلى لقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ؛ انطلقت الاجتماعات الدورية لرؤساء مجالس الشورى والوطني والأمة والنواب بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية اعتباراً من عام 2007م .
الظهراني نال مكانة ومنزلة مرموقة محلياً وإقليميا حتى أنه لمّا تقدّم لنيل جائزة التميز البرلماني على مستوى الاتحاد البرلماني العربي الذي يضم جميع الدول العربية ؛ تنازل وانسحب المرشحون الآخرون لصالحه تقديراً وتكريماً له ففاز بها بالتزكية.
للوالد الفاضل خليفة بن أحمد الظهراني صنائع معروف وأيادٍ بيضاء على مجاميع كثيرة من الناس ؛ هو صار يشرف بنفسه ولا يزال يساهم من خالص ماله مع عدد من فاعلي الخير على مشروع للزواج الجماعي مستمر منذ عدة سنوات ، تجاوز عدد المستفيدين منه حتى الآن خانة الآلاف من الشباب . وأذكر أيضاً أنه عند لقائه بموظفي الأمانة العامة لمجلس النواب بداية استلامه رئاسة المجلس عام 2002م قرر بعده تأسيس صندوق للقرض الحسن لموظفي المجلس ، أوْدع فيه مايقارب (20) ألف دينار من خالص ماله قبل أن يتأسس في المجلس بعد سنوات نظام للقرض الحسن أسوة بوزارات ومؤسسات أخرى . أشياء وأشياء أخرى كثيرة عن أعماله ومساعداته الخيرية أعرف أن البوْح بها قد لايرضيه وربما تثير حفيظته لكنني أعرف يقيناً أن راتبه الشهري لم يكن يملكه .
شريط الذكريات لايتوقف ، سعيت لأن أتعلّم منه الكثير وأردت أن آخذ من خصاله ونبلْه حتى أن سعادة النائب عبدالله بن حويل قال لي ذات مرّة : أنت ( تطبّعت ) من بومحمد في أخلاقك وتعاملك .. رددت عليه سريعاً : الفرق بيني وبينه كما هو بين الثرى والثريا .. سانحة :
الرفق والأناة والحلم ، صفات يسهل على الكثيرين حثّ الآخرين على التحلّي بها ودعوتهم نحو الالتزام بها . لكن قلّة من الناس من يستطيع أن يتصف بها أو أن تكون ملامح بارزة في شخصيته ، أو أن تكون بصماتها مطبوعة على سائر أعماله ونشاطه كما خليفة الظهراني . لذلك كان يدعو النواب دائماً بقوله : ” زريعتكم غضة ، داروا عليها ، ليشتدّ عودها وتجنوا خيرها ” . بومحمد .. كفيت ووفيت .