تحفل الحياة الاجتماعية للعرب بالكثير من مواقف الكرم والشهامة والمروءة والوفاء وما شابهها من قيم راقية ترسخت فيهم وأصبحت ممارسة عادية ومكتسبة ترسم عناوين وأطباع شخوصهم وقبائلهم من دون عناء أو تكلّف . بل أصبحت تلك الطباع والأخلاق الحسنة في ذاك الزمن الجميل ، زمن البساطة والصفاء والنقاء مجالاً مفتوحاً للمنافسة من أجل التفوّق في إظهار حميمية تطبيق هذه القيم الفاضلة بين الناس ، فكان الكرم – مثلاً – يُردّ بأضعافه . ومن ذلك قصة في ردّ الجميل حصلت في ذاك الزمان بين عائلتين ، عراقية وعمانية ، تتمثل في أن العائلة العراقية التي كانت تسكن البصرة، وكانت تسمى (عائلة ميكال) وهي على درجة من الثراء الكبير؛ نزلت في مدينة صُحار العمانية ، بسفينة كبيرة، وعندما أرادوا العودة إلى البصرة لم يتمكنوا من ذلك بسبب الغبار والرياح والأمطار التي هطلت لمدة ثلاثة أشهر متتالية، وقد نفذت مؤونتهم، ونقودهم، فنزلوا ضيوفًا على الشاعر والأديب (ابن دريد)، فأكرمهم لمدة ثلاثة أشهر متتالية، حتى أنه أحرق بعض مقتنيات منزله المصنوعة من الخشب؛ من أجل تدفئة ضيوفه وصنْع الطعام لهم . فلما هدأت العاصفة رحلت عائلة (ميكال) إلى البصرة، وقد طلبت من (ابن دريد) أن يأتي إلى البصرة لتعليم أبنائهم الشعر والأدب العربي، فذهب (ابن دريد) ملبيًا طلبهم، فلما نزل معهم في العراق لم يستقبلوه استقبالاً حاراً، ولم يكرموه، فشعر بالإهانة والضيق ، وقرر العودة إلى مدينة صُحار، وبالفعل عاد بعد بضع شهور إلى عُمان. وكانت المفاجأة عندما نزل ميناء صحار، حيث استقبله أهله وأقاربه استقبالا حاراً وبهيجاً، وكانت تظهر عليهم علامات الثراء، فسألهم (ابن دريد): من أين لكم كل هذا المال؟! فقالوا له: (أنت من بعثته لنا من البصرة، فبعد سفرك إلى العراق، وصلتنا سفينة كبيرة محملة بما لذّ وطاب من الأكل والشراب، ومن الملابس والحُلي، والخيول، وقيل لنا أنها من عندك)، فضحك (ابن دريد)، وعرف بأن عائلة (ميكال)، أرادت أن تكرمه دون أن تجرح مشاعره، وذلك نظير كرمه لهم عندما كانوا في “صحار”، فصنعوا له هذه المكيدة، حيث طلبوا منه أن يأتي إلى البصرة، وعندما يصل إليهم يبعثوا بالهدايا والعطايا لأهله في صحار، ثم يعاملوه في البصرة معاملة تجبره على أن يضيق به الحال؛ فيعود إلى أهله ويجد الهدايا والعطايا.. ولهذا أنشد (ابن دريد) قصيدة طويلة تسمى (المقصورة) تضمَّنت مدحًا في عائلة (آل ميكال)، قال عنهم فيها :
إِن كُنتُ أَبصَرتُ لَهُم مِـنبَعدِهِـم |
مِثلاً فَأَغضَيتُ عَلى وَخـزِ السَفـا |
|
حاشـا الأَميرَيـنِ الَّلذيـنِ أَوفَـدا |
عَلَيَّ ظِـلّاً مِـن نَعيـمٍ قَـد ضَفـا |
|
هُمـا اللَـذانِ أَثبَتـا لـي أَمــلاً |
قَد وَقَفَ اليَـأسُ بِـهِ عَلـى شَفـا |
|
وَأَجرَيا مـاءَ الحَيـا لـي رَغَـدا |
فَاِهتَزَّ غُصنـي بَعدَمـا كـانَ ذوى |
|
هُمـا اللَـذانِ سَمَـوا بِنـاظِـري |
مِن بَعدِ إِغضائي عَلى لَذعِ القَـذى |
|
وَقَلَّدانـي مِـنَّـةً لَــو قُـرِنَـت |
بِشُكرِ أَهلِ الأَرضِ عَنِّي مـا وَفـى |
|
بِالعُشرِ مِن مِعشارِها وَكـانَ كَـالـ |
حَسوَةِ فـي آذِيِّ بَحـرٍ قَـد طَمـا |
|
إِنَّ اِبنَ ميكـالَ الأَميـر اِنتاشَنـي |
مِن بَعدِما قَد كُنتُ كَالشَـيءِ اللقـى |