أكثر ما يلفت الانتباه أثناء مناقشات تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية طوال السنوات الماضية في مجلس النواب هو انقلاب معادلة الأصل والاستثناء بحيث أن الممارسات العادية والسلوكيات المفترضة عند الناس ، مما يؤدونها بشكل طبيعي صارت هي استثناء بعدما كانت هي الأصل ، وهي الأساس ! وأصبحت تبعاً لذلك ألفاظ مشهورة ومألوفة وعادية جداً هي مدعاة للمديح والإطراء لالشيء سوى لأن عكسها قد أصبح هو الدارج في حياتنا ، مما يكثر استخدامه حتى إذا ما جاءت حالات الاستثناء الجديدة ( الأصلية أساساً ) صارت محل إعجاب واحترام ، وتحظى بالإشادة ومختلف صور التقدير .

ولذلك لاتكاد تخلو جلسة من جلسات مناقشة تقرير ديوان الرقابة من أن يخصص بعض السادة النواب جانباً من مداخلاتهم وتعليقاتهم للإشادة بالوزارات والمؤسسات التي لم يكن عليها ملاحظات وشبهات فساد  ، ولم يأت ذكرها في التقرير ، فتكون بذلك عنواناً للإطراء باعتبار أن ماقامت به من حسن إدارة ومحافظة على المال العام واتباع للقوانين واللوائح أمر نادر في خضم الكمّ الكبير من الوزارات والمؤسسات التي شملها التقرير بأدلته واتهاماته وملاحظاته على فسادها وقصورها ومخالفاتها وتبذيراتها وتجاوزاتها .

الأصل أن النزاهة هي السائدة ، وهي النتيجة الطبيعية والمفترضة لكل الممارسات الإدارية والمالية في جميع الوزارات والمؤسسات . وأن الاستثناء هو الفساد أو الهدر أو الاختلاس أو ماشابه ذلك لولا أننا صرنا للأسف تتناهى إلى أسماعنا ألفاظ السلوكيات الطبيعية مثل النزاهة والأمانة فنكون كمن يلتقط غرائب الأشياء . وتكون كلمة ” نزيه ” أو ” أمين ” مستخدمة في تعبيراتنا وأدبياتنا كنعت في معرض توصيفنا لوزير أو وكيل أو مدير أو مسئول أو … إلخ  ، وليست كنظام عام ، أو شأن أخلاقي طبيعي نفترض توافره في هذه الشخوص من الأصل دونما حاجة لذكره وامتداحه. أي أن “الفاسد” أصبح هو الدارج والمتعارف عليه ، وأصبح النزيه هو المستثنى الذي يستحق الإشادة والإطراء . بينما العكس هو الذي يجب أن يكون ، أو على الأقل نرجو له أن يكون

وفي ظل انقلاب هذه المعادلة ، معادلة الأصل والاستثناء نتمنى إصدار تشريعات أو لوائح تحفظ صفات الأمانة والنزاهة من الانقراض وتوفر لها الدعم والحماية والرعاية اللازمة من أجل أن تعيد لها التوازن في تلك المعادلة وتكسبها الانتشار والصمود والاستمرار أمام الضغوط والإغراءات .