غادر في بداية هذا الأسبوع دنيانا الفانية العلاّمة الفذّ ، الفقيه الأريب الشيخ وهبة الزحيلي ، أحد أبرز علماء الشام وألمع فقهاء العصر ، لايُذكر اسمه إلاّ مصحوباً بألقاب علمية شتى ، لعل أشهرها صاحب الموسوعات الفقهية والقرآنية حيث تزخر المكتبات والجامعات العربية والأجنبية بعشرات المؤلفات لشيخنا الذي توفاه الله عن عمر ناهز (83) عاماً قضاها في مجالات التأليف والتدريس والخطابة والإفتاء .
نشأ في بيت علم في مدينة دير عطية من مدن ريف دمشق ، كان والده حافظاً للقرآن الكريم ، اهتم بتعليمه حتى صار التفوّق ملازماً له طوال حياته الدراسية ، إذ كان ترتيبه الامتياز والأول على جميع حملة الثانوية الشرعية عام 1952 وتابع تحصيله العلمي في كلية الشريعة بالأزهر الشريف، فحصل على الشهادة العالية وكان ترتيبه فيها الأول عام 1956 ثم حصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق (الشريعة الإسلامية) عام 1963 بمرتبة الشرف الأولى مع توصية بتبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية، وموضوع الأطروحة آثار الحرب في الفقه الإسلامي ـ دراسة مقارنة بين المذاهب الثمانية والقانون الدولي العام.
تعرفه أستاذاً بالإضافة إلى جامعة دمشق جامعات أخرى ، في السعودية والإمارات والكويت وقطر والسودان وتركيا وماليزيا وجامعات أوروبية كثيرة تتلمذ على يديه علماء ومشايخ وأثرى بكتبه نواحٍ شتى لازالت تنهل من معينها مناهج الجامعات وجرى ترجمة جلّها إلى مختلف اللغات .
ومن أبرز مؤلفاته رحمه الله وأشهرها : موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة (14) مجلداً ، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج (16) مجلداً – حاصل على جائزة أفضل كتاب في العالم الإسلامي للعام 1995 ، العلاقات الدولية في الإسلام ، الاقتصاد الإسلامي ( تم إصداره باللغة الانجليزية ) ، القانون الدولي وحقوق الإنسان ، حوار حول تجديد الفقه الإسلامي ، الاستنساخ جدل الدين والعلم والأخلاق ، وسطية الإسلام وسماحته ، شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وكان الدكتور الزحيلي عضواً وخبيراً في العديد من المجامع الفقهية وهو أيضاً رئيساً لأكثر من هيئة شرعية في مجال البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية ومنها رئاسته لهيئة الرقابة الشرعية لشركة المضاربة والمقاصة الإسلامية في البحرين، ثم رئيس هذه الهيئة للبنك الإسلامي الدولي في المؤسسة العربية المصرفية في البحرين ولندن.
ومما يُعرف عنه رحمه الله تصدّيه للتمدّد الصفوي في سوريا وموقفه المناهض للسماح بانتشاره وتصفه الأجهزة الأمنية والمخابراتية في نظام بشار الأسد بـ ( العالم السني الوهابي ) ويُقال أنه فُرضت عليه الإقامة الجبرية حتى وفاته مطلع هذا الأسبوع .
ومن نكد هذا الزمان أن يغيب عنّا مثل هذا العملاق الفذّ والعلاّمة النابغة ، ويرحل في صمت ، فلم تنعيه وسائل الإعلام ، ولم تطريه بما يستحقه ، وأترك لكم المقارنة بين تناول وسائل إعلامنا لوفاته وبين وفاة أي فنان أو راقصة أو من في أضرابهم وفي مستواهم ممن تفرد لنعيهم الصفحات وتخصص لفبركة سيرهم برامج وسهرات ، لالشيء سوى أننا نعيش في خضم الموازين المقلوبة والمقاييس العاجزة . رحم الله العالم الربّاني فضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحلي وعزاؤنا أنه يمضي الرجال وتبقى آثارهم .
سانحة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم ؛ فضلوا وأضلوا ” .