راصد

لن ننساك .. فقد أبقيت كلّها إلاّ كتْفها

في شهر مايو الماضي ، بالضبط في الثاني عشر منه ، ألقى الوالد المربي الفاضل الشيخ عيسى بن محمد بن عبدالله آل خليفة كلمة مؤثرة جداً في حفل تدشين كتاب عن تاريخ جمعية الإصلاح ، قال في بدايتها : ” كمثْل المسافر في القطار ، تمضي بنا الحياة ، بحلْوها ومرّها ، وصفْوها وكدرها ، ونشاطها وركودها . نقف كل يوم في محطة من محطاة الحياة ، نتزود منها لنواصل المسير ، نتعلّم الدروس ويحدونا الأمل ، ولانسأل الله إلاّ القبول ” . حينذاك عمّ قاعة الحفل سكون وصمت غريب – لم أره في حياتي – يُخيل لي أن الحضور الكثيف قد حبسوا أنفاسهم وهم يواصلون الاستماع للشيخ الوقور حتى إذا ماختم كلمته الضافية والحانية بقوله : ” إنها أمانة .. إنها أمانة ” وضجّت بعدها القاعة بالتصفيق ؛ همس أحدهم : أن الشيخ عيسى يودّعنا !

وهو بالضبط الشعور الذي أحسّ به – ربما – غالب من أرخى أذنيه لكلمته آنذاك ، حتى أن كثرة من الحضور قد التفّوا حوله في نهاية الحفل ، يسلّمون عليه ويقبّلون رأسه في حماس من يودّعون دون أن يعلنون ، وفي رجاء أن ينعم الله عليه بالصحة والعافية وطول العمر من غير أن يقولوا .

وعند خروجه من قاعة الحفل ، وهو المريض الذي صعُبت عليه الحركة والمشي ؛ أحاطه جمع من أبنائه وشباب الجمعية وجعلوه يتكأ عليهم في سيْره ومشيته ، عرفاناً بفضله الغزير وحباّ له وتقديراً لمكانته الغالية في نفوسهم . وهو الذي قال عن جمعيتهم : ” إن الحديث عن تاريخ جمعية الإصلاح هو حديث عن جزء كبير وعزيز وغالٍ من حياتي ، إنه حديث النفس عن النفس ” .

ثم اشتدّ به المرض ولم تمض على كلمته تلك سوى هذه الثلاثة الأشهر حتى ترجّل ذلك الفارس في ليلة الجمعة المباركة ، فأدركنا أنه كان بالفعل يودّعنا . وأن الخاتمة التي قال فيها عن دعوة الإصلاح : ” هذه أمانة .. هذه أمانة ” إنما كانت هي وصيّته لتلامذته ومحبيه وجموع من الناس كانت له أيادٍ بيضاء وأفضال عليهم لن ينسوها مابقوا .

وأحسب أن هذه الوصية باتت غالية وحاضرة الآن في نفوس كل من عرفه في جمعية الإصلاح وغيرها ، ممن عرفوه ابناً بارّا ، وأخاً رؤوماً رحيماً ، وأباَ عطوفاً ، وداعية شغوفاً برسالته ، وأميناً مخلصاً لدينه ووطنه ، ومعلّماً لايوفر جهداً ووقتاً إلاّ بذله .. تعجز الكلمات عن وصف أخلاقه وعدّ مآثره وطيب لقائه وبيان تواضعه الجمّ والتعبير عن مقدار حكمته ، وحبّه للخير والإحسان . ولازلت أذكر لأبي محمد رحمه الله أنه قبل حوالي عقدين من الزمان أو أكثر ، كانت عادته طوال شهر رمضان المبارك أن يصلي العصر في مسجد جمعية الإصلاح بالمحرق ، ثم يعتكف على القرآن الكريم ، قراءة ودرساً ، ثم يأتي قبل أذان المغرب بأجود أنواع التمور والمأكولات ليفطر في المسجد مع جميع المصلين ، والذين كان منهم عمال أجانب كان – رحمه الله – يحرص في كثير من الأحيان أن يسقيهم الماء من يده الكريمة طمعاً في مزيد من الثواب . كان ذلك دأبه كل رمضان لسنوات وسنوات قبل أن يمرض وينتقل من المحرق للرفاع .

عند سماعي لنبأ وفاته ؛ قفزت إلى ذاكرتي – ضمن أشياء كثيرة وأثيرة – قوله رحمه الله وترداده في أكثر من مناسبة : ” إننا في هذه الدنيا رهائن لأعمالنا ، فإما أن نتحرّر أو نبقى عبيداً لها ” .

سانحة :

رحم الله الشيخ عيسى بن محمد بن عبدالله آل خليفة ، ذي التاريخ الزاهي والسمعة الرفيعة والعطاء الغزير للبحرين وعموم العالم الإسلامي ، فقد ذكر في كلمة له بمقدمة الكتاب ” لقد علمتنا الحياة فيما علّمتنا أن عمر الإنسان لايُقاس بالأيام والسنين من يوم أن أبْصر الحياة ، إذ لايُحتسب من حياته إلاّ ما عاشه الواحد منّا لمجتمعه وأمته ، لا ماعاشه لخاصة نفسه . فحياتنا أشبه ما تكون بتلك الشاة التي تصدّق بها أهل بيت النبوّة ، ولم يبقوا منها إلا كتْفها ، فأنبأهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن حقيقتها ، فقال ” بل كلّها بقيِت إلاّ كتْفها ” . بومحمد طبْت حيّاً وميّتاً .. لن ننساك فقد أبقيْت كلّها إلاّ كتْفها .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s