راصد

فدِيتْها المحرق

هي عبارة لا تستغرب أن تسمعها من أي مواطن في البحرين حينما تُذكر أمامه هذه المدينة ذات العبق التراثي الخاص والمكانة المتميزة بين سائر مدن وقرى البحرين، ليس من التوّ، وإنما منذ عقود خلت من الزمان، احتلّت فيها أحياؤها و(فرجانها) و(عرشانها) و(أسيافها) و(دواعيسها) مهجة القلوب ونالت علوّ المحبّة، وبات استرجاع شريط ذكرياتها مدعاة فرحة وراحة للكثيرين، وخاصة الآباء والأمهات والأجداد الذين تعلّقت قلوبهم بها حتى وإن ظعنوا عنها إلى مناطق أخرى لا تفتأ أن تخرّ دموعهم من مآقيها كلّما جاء (طاريها) وبعضهم لا يزال يجد سعادة غامرة عندما (يتمشى) في أزقتها مستذكراً عبْقها وماضيها حتى وإن جار الزمان عليها واختلطت – أو امتلأت – بغير (ناسها) وتراكم الإهمال فيها، فغدت تلك المناطق كما ترونها وتشاهدونها الآن.
المحرق مدينة تخرّج فيها رجال أفذاذ يُشار إليهم اليوم ببنان الفضل والعرفان في مجالات شتى، وكان رجالاتها مضرباً للمثل في أنبل القيم والأخلاق، لا ينافسهم أحد في الوفاء والنقاء، وليس مثلهم في طيب المعادن والأصول، ولا يجاريهم أحد في (الطيبة) والتسامح والبساطة والتواضع، ولا يناهزهم أحد في التضحية والشجاعة حتى قيل عنهم انهم يعبرون البحر سباحة للوصول إلى المنامة في حال وجود حريق هناك لتقديم واجب الإنقاذ والمساعدة.
حتى (شيوخنا) – الله يحفظهم – يعرفون للمحرق فضلها، ويذكرونها – ربما – بصورة تجعل الآخرين يصابون بالغيرة منها حتى ان جلالة الملك المفدى – حفظه الله – قد أبى إلاّ أن يجتمع برجالاتها ويزورهم بنفسه في مدينتهم خلال شهر رمضان المبارك الماضي. كما أن صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء الموقر لا يخفي حبّه للمحرق والتعبير عن سعادته الغامرة كلّما زارها.
التقيت إحدى المرات الفاضل المكرّم الأستاذ حافظ الشيخ صالح في سوق المحرق عند جلسة حلويات شويطر، فسألته عن سرّ حرصه على المشي والجلوس في هذه المنطقة المحرقية رغم مرضه و(تعبه) فأسهب في الكلام عن المحرق إلى أن قال إن لها سحرا عجيبا، ثم قال – وهو يضحك – إنها مدينة مقدّسة عندنا.
اعذروني إن أسهبت في الحديث عن المحرق، ففيها قضينا أجمل الأيام، أيام ألفة ومحبة، أيام (لمّة) وأمان، كانت الأبواب لا تعرف الأقفال، وكان الناس لا يعرفون العداء والضغناء، وكان الجيران أحرص على الأبناء من الآباء والأمهات، كان الناس معروفين بأسمائهم وألقابهم وأسماء أمهاتهم وربما شجرة عائلاتهم، لا يكدّر صفوهم أي شيء، ولا يخرّب ليل المحرق أي غادر صفيق، يفجر في خصومتها ويروّع أهلها بدوي انفجار غريب ودخيل ليس على المحرق فقط وإنما على مدن وطبائع عموم البحرينيين.
قبل بضعة أعوام، في أحد المجالس المحرقية، عندما جاءت (السوالف) عن أحوال القتل والدمار في البلدان المجاورة، عرض علينا أحد الحاضرين أغنية جميلة ومؤثرة للفنان التونسي لطفي بوشناق، هي من تأليف الشاعر التونسي المبدع مازن الشريف، مما جاء فيها:
يشهد الله والزمن
أنا حلمي كلمة واحده أن يظل عندي وطن
لا حروب ولا خراب لا مصايب لا محن
خذوا المناصب والمكاسب
لكن خلّولي الوطن
يا وطن وأنتا حبيبي
وأنتا عزّي وتاج رأسي
أنت يا فخر المواطن والمناضل والسياسي
أنت أجمل وأنت أغلى وأنت أعظم من الكراسي
يشهد الله والزمن.. أنا حلمي كلمة واحدة
أن يظل عندي وطن
وكان الفنان لطفي بوشناق ينشدها بتأثر شديد وحزن لم يستطع أن يتمالك معه دموعه، وخاصة حينما غنّى: خذوا المناصب والمكاسب.. لكن خلّوا لي الوطن. فديتها المحرّق.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s