صنفان من الناس؛ أحسب أن أولهما يصعب عليه التحدّث أو التعبير عن حالة الصنف الثاني. فالأول – مثلاً – إذا مرض فإنّ المستشفيات الخاصة مكانه، وإذا زاد عليه هذا المرض طار به الطائر الميمون إلى أي مستشفى أو منتجع صحي يختاره من بلاد الدنيا. أما الصنف الثاني فإنه إن مرِض فليس له إلاّ ما تعرفون من مراكز صحية أو مستشفيات صار عنوانها الازدحام والانتظار، ولاتوجد أسرّة كافية، والإهمال واللامبالاة حديث الناس عنها. وإذا اشتدّ مرضه واحتار الأطباء في علاجه وعزّ الدواء وأراد أن يذهب الى الخارج؛ فإنّ عليه بالمختصر أن يتسوّل ويطلب من الجمعيات والصناديق الخيرية ويستجدي من الصحف والإذاعة مساعدته.
الصنف الأول إذا تخرّج أبناؤه من الثانوية؛ ما عليهم إلاّ أن يختاروا ما يريدون من التخصصات والجامعات، داخل البحرين أو خارجها، بينما الصنف الثاني يكون تخرّج أبنائه بدء انطلاقة مرحلة عصيبة أخرى في حياته خاصة إن فاته قطار البعثات والمنح القليلة، فتكون وجهته حينئذ قروض البنوك ليدرّسهم بديونه.
وحينما يحلّ الصيف؛ فإنّ الصنف الأول لايتحمّل جسده مع عائلته لهيب حرارته فيغادر إلى بلاد الله الواسعة، متجوّلاً في جزرها وبين مناظرها الطبيعية ومياهها الرقراقة وأجوائها الزاهية اللطيفة، في حين أن الصنف الثاني يقبع هنا بين الرطوبة والحرارة الشديدة مع عائلته، وإن فكّر في السفر قام بعبور جسر الملك فهد.
الصنف الأول تبحث عنه الوظائف والمناصب الشاغرة، له أو لأبنائه، في حين الصنف الثاني عليه أن يسجل اسمه في مراكز التعطّل ويتسلم إعانة البطالة ويستمر عاطلاً سنوات قد تطول ولاتقصر. أما السكن فقصة الصنف الأول معه قصيرة جداً، ويمكن بعض أبنائه يستطيعون تأمين سكنهم إما وهم أجنّة في البطون أو أطفال لايزالون في روضاتهم. بينما الصنف الثاني قد يتخرّج الأبناء ويتزوجون ولم تنته قصة والدهم – من شدّة طولها – مع سكنه. الصنف الأول إن تقاعد بدأت له محطة أخرى من حياة الرفاهية و(الوناسة) والنقاهة. في حين تكون للصنف الثاني مرحلة (تعاسة) وديون واكتئاب.
الصنف الأول لا يهمه إن ارتفع سعر- مثلاً – اللحم إلى ثلاثة دنانير أو تجاوز سعر الطماطم الدينار لأنه قد يشتريه من دون أن يعرف سعر، لكن الصنف الثاني إن زاد على شيء يشتريه مائة فلس؛ قام يضرب أخماساً في أسداس وربما يطير بسببها النوم من عينيه.
الأمثلة كثيرة التي يمكن المقارنة فيها بين الصنفين، لكن من الضروري الالتفات إلى أن الصنف الأول لا يمكنه أن يعبّر لقيادتنا الرشيدة عن حالة الصنف الثاني، ولايستطيع نقل معاناته بكل وضوح ودقّة، وربما يفضل في بعض الحالات أن يكذب ويقول كل شيء تمام في تمام، حفظاً لتمصلحه أو إبقاءً لملاعق الذهب التي يأكل بها.
سانحة:
قلنا وسنظل نقول: إن الصدق مع الحكام والمسؤولين هو قمة الوطنية وأعلى درجات الولاء والإخلاص للقيادة الرشيدة، وإن أصل البلاء هو في الكذب والنفاق والمجاملات. أولياء الأمور في بلداننا في أمسّ الحاجة إلى من يصدقهم القول عن أحوال المواطنين ومعيشتهم من الغيارى والمخلصين لهذا الوطن وقيادته العزيزة، وليسوا بحاجة الى الطبالين و(سقْط القوم) وحصالات الخردة الذين يروّجون مفاهيم بليدة وخائبة للمواطنة، ويسوّقون تجارة كاسدة لحرية الرأي والتعبير.
والحكّام والمسؤولون حينما يزورون مناطق الناس ومناسباتهم لا يريدون من يقول لهم (كل شيء تمام) وإنما يحتاجون إلى من يرشدهم إلى مشاكل الناس ويطلعهم على حقيقة أوضاعهم ويُعرّفهم بأحوالهم لا أن تتحوّل هذه الزيارات إلى مناسبات وبهرجة وزينة إعلامية ومسابقات خطابية وشعرية تضيع فيها أنّات الناس وحاجاتهم. وفي تاريخ الخلفاء والحكام؛ يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم».