قبل بضع سنوات أو عقود كانت قضية فلسطين ملء السمع والبصر ، لاتكاد تفارق أخبارها مختلف الفضائيات في العالم وتتصدّر أحداثها جميع الصحف ووسائل الإعلام المختلفة . هي المادة الرئيسية في أحاديث الناس ومجالسهم . وكان الأقصى الشريف هو بمثابة القلب النابض الذي تجتمع لذكره والشوق لتحريره و( الفزعه ) عند المساس به كل الأطياف والانتماءات والتوجهات ، تذوب كلها في جسد واحد لنصرته ، على مابينها من اختلافات ، سواء إسلامية أو علمانية أو ليبرالية أو غيرها مما يمكن – على تناقضاتهم – أن يخرجوا في مسيرات ومظاهرات موحدة ، غاضبة وهادرة ، تستنكر أي هجمات غادرة في ذاك المكان المقدّس أو تدعو الحكومات وأمم العالم للتحرّك لوقف أية أعمال تدنّس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
كانت الهبّات الجماهيرية الجامعة تشكّل ضغطاً يجعل المحتلين والمتآمرين والمتواطئين يعملوا ألف حساب لتلك الوقفات والاحتجاجات والاعتصامات ، ويخشون تصاعدها وتداعياتها . وذلك قبل أن تسير – للأسف الشديد – في الأنهار مياه آسنة ، فتتراجع على إثرها مرتبة قضية الاحتلال الغاشم لأرض فلسطين في أخبار الفضائيات ، وينساها أو يتجاهلها الإعلام ، ثم ينتشر اليأس والإحباط ، وتشتغل على القضية الفلسطينية المؤامرات والخيانات ، ويتفاقم مسلسل التنازلات ، ويتبعه الدخول في نفق التطبيع وإقامة العلاقات مع الصهاينة.
وينشغل العرب والمسلمون ومعهم العالم بقضايا وجروح نازفة أخرى ، هنا أو هناك ، تصرفهم عن قضيتهم التي كانوا في سابق السنين يسمونها بـ ( القضية الأم ) . وعندئذ اطمأن اليهود أن دولتهم التي اغتصبوها من الفلسطينيين ؛ باتت في سلام ، وأن وجودهم وكيانهم غير مهدّد ، وأن حدودهم آمنة ومحمية ، وأن مدينة القدس بالذات أصبحت ملكاً خاصاً وعاصمة أبدية – كما يزعمون – لهم لاينازعهم فيها أحد ، ولايغضب لها غيارى ، ولايطالب بها أحرار .
هكذا اعتقد اليهود وأتباعهم ، وصدّقوا المقولة الشهيرة التي أطلقتها غولدا مائير رئيسة وزراء العدو الصهيوني السابقة أيام النكبة في عام 1948م عندما قالت ” غدا يموت الكبار وينسى الصغار ” حيث توقعوا أن الذبح وارتكاب المجازر أو مرور السنين واندثار الكبار كفيل بأن يُطفيء حرقة قلوب الفلسطينيين وعموم المسلمين على أقصاهم ، وأنه بعد ذهاب الكبار لن يتذكرها أحد ، ولن يسمعوا كلمات من مثل : تحرير أو عودة لاجئين أو طرد محتلين أو الانتقام من غاصبين .
غير أن المفاجأة التي صارت تذهلهم بعد كل هذه العقود من الاحتلال والمجازر والتهويد والتطبيع تكمن في اكتشافهم أنه بالفعل ” مات الكبار ولم ينساها الصغار ” !! إذ تفجّرت الانتفاضة مجدّداً ، حملت اسم ” انتفاضة السكاكين ” اشتعلت جذوتها في القدس نفسها التي ظنّوها عاصمة وعمقاً لدولة البغي والاحتلال . وكانت صدمتهم الحقيقية أن أبطال هذه الانتفاضة هذه المرّة هم أحفاد الكبار ( الجيل الثالث ) ممن اعتقد اليهود أن موتهم واندثارهم سيترتب عليه نسيان الصغار أن لهم وطن وقضية اسمها ” فلسطين ” .
خاب ظنّهم وفشلت تنبؤاتهم ؛ فشرارة الانتفاضة اليوم ومشاعلها في القدس والضفة الغربية طلاب مدارس وجامعات ، وفي مستوى أعمارهم يقود المقاومة الباسلة في قطاع غزة ، لالشيء سوى أن قضايا مقدساتنا وأعراضنا لاتموت بالتقادم ، ولاتتأثر بالتراكم ، تتناقل الأجيال رايتها جيلاً بعد جيل حتى ترفرف خفّاقة على كلّ ربوع فلسطين وسفوحها .. وماذلك على الله ببعيد .