أجريت – قبل حوالي أكثر من عشرين سنة – إبان تدريبي ودراستي الجامعية في قسم الصحافة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لقاء صحافياً مع الدكتور عبدالقادر طاش رحمه الله بمناسبة تعيينه رئيساً للقسم ، وكان حينذاك عائداً للتو من الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصوله على الدكتوراه . وأذكر أنني سألته حينها – على عادة الطلاب المبتدئين – سؤالاً تقليدياً : ما هي حكمتك في الحياة ؟ فردّ علي سريعاً : قال عيسى بن مريم عليه السلام : ” لا تنظر إلى القشة التي في عين صديقك ، بل أنظر إلىالخشبة التي في عينك “
ولقد علقت في ذهني هذه العبارة منذ ذلك الوقت وصارت محل تأمل وتفكّر عندي كلّما أردت انتقاد آخرين أو مراقبة تصرفاتهم وأصبحت كثير المراجعة لنفسي وتصرفاتي وأصبح ميزان ذلك عندي بيت شعر للإمام الشافعي ، يقول فيه :
لسانك لا تذكر به عورة امرأ فكلّك عورات وللناس ألسن
في الحقيقة ؛ كم هي جميلة تلك اللحظاتالتي يعيشها بعضنا ويفتقرها بعضهمويشتاق إليها البعض الآخر : الصدقفي المشاعر، الصدق في الحب ، الصدق في الحزن، الصدق في الفرح، الصدق فيالقول، الصدق في العمل، الصدق في التعامل ، وأخيراً وأهمها الصدق مع النفس ؛ فالصدق مع النفس لحظة صفاء نحتاج إليها في زمن غطّت العقل والوجدان غيوماً سوداء ما عاد يُرى بسببها تلك اللحظات الجميلة من الصدق والصفاء مع النفس .
بات في زماننا الأنكد من السهل أن يعيش الإنسان متناقضاً بين ظاهره وباطنه أو بين فعله وأقواله دون أن يثير ذلك عنده أدنى استهجان أو استغراب حتى صار ذلك السلوك قريب من الأصل والمعتاد . وقد يمضي بعضنا في ذلك ردحاً من الزمان ويقضم الدهر من سني حياته وأيام عمره وهو على هذه الحال السيئة من الاغتراب مع نفسه من غير أن يبادر إلى منحها فرصة للمراجعة أو التأمل والتنبّه للعودة لتسوية الظاهر مع الباطن ومطابقة الأقوال مع الأفعال . وبالتالي صار من المتاح أن ترى في مجتمعاتنا المتناقضات ، ترى من يدّعي الصدق لكن الآخرون ينادونه بالكذاب ، وقد ترى من يدعو للفضيلة بينما يكون في ذات الوقت أحد رعاة الرذيلة ، وقد ترى من يكافح الفساد بالرغم من كونه في دنيا الناس أحد ركائزه ، وقد ترى من ينادي بالأمانة لكنه حرامي ومختلس وقد ترى … إلخ . غير أن المصيبة الأكبر هو أن هذا الكذاب أو هذا المفسد أو الراعي للرذيلة أو الحرامي أو ما شابههم يسـتطيع أن يخفي – رغم الصعوبة – كل هذه القبائح على العالم بأجمعه إلاّ نفسه !! إلاّ نفسه !!
لقد صار الكثير من الناس في ظل زحمة الحياة وتنامي مشاغلها وحاجاتها يسمحون لأنفسهم أن يتخلوا عما بداخلهم ويبيعوا مبادئهم ، ويتلوّنون من أجل مصالحهم وإشباع حاجاتهم بألوان شتى ، بعضها حقيقية وبعضها زائفة ، وقد يلبسون ثيابهم أو ثياب غيرهم . بل أصبح من النادر أن تجد من يعترف بخطئه وكثُر من يدّعي العصمة ويبرر لنفسه النفاق والكذب وقد يعطي لنفسه العذر تلو العذر في التصرف بطريقة معينة بينما قد يُحاسبالآخرين محاسبة شديدة فيما لو صدر منهم ذات التصرّف ، وأحياناً كثيرة قد نخون أنفسنا ونضحك عليها ونخدعها بأن نزيّن لها أفعالها. أحيانا يأخذناالاعتزاز بأنفسنا ، وأحيانا قدنعيش حالة إعجاب بالذات وتضخم الغرور وعقدة “الأنا” الأمر الذي يزيد من بعدنا وغربتنا عن داخل أنفسنا وقرارتها فنكون مع مرور الزمن قد أضفنا سنوات – مجرّد سنوات- إلى حياتنا ، ولكننا لم نضف حياة إلى سنوات عمرنا .
فلننتبه إلى أنفسـنا ونعطيها ما تستحقه من لحظات الصدق الخالصة التي ما أحوجنا جميعاً إليها إن لم تكن بصفة دورية متكررة فلا أٌقل من أن تكون ولو مرّة في حياتنا على ألاّ تكون هذه المرّة عند عبرات النادمين أو ضمن زفرات وسكرات الراحلين إلى بارئهم . وقد قال عيسى عليه السلام : ” ما قيمة الإنسان لو ربح العالم كله ، وخسرنفسه ” . فلاتتخلّوا عن أنفسكم لصالح أجسادكم ..