في أجواء الإسفاف والهبوط الذي تقدّمه كثرة من القنوات التلفزيونية التي ضاعت عند أغلبها (بوصلة) الأهداف والاهتمامات وتراجعت أو فقدت ميزان الأولويات فأصبحت السطحية وحالة الضياع هي العنوان الأبرز لانطباعنا عند مشاهدة كثير من برامجها ومسلسلاتها مما سنكتشف – قريبا- مع حلول شهر رمضان المبارك المزيد من هذا الغثّ الذي تتسابق لأجله معظم تلك القنوات الفاقدة لأي رؤى وطموحات سوى ملء ساعات البث المتواصلة بأي شيء، مهما تدنّى وضعف، ومهما أساء وشوّه، بغض النظر عن نفعه وعوائده.
تلك المقدّمة كانت ضرورية قبل أن نكتب عن البرنامج الجماهيري الناجح والمتميز الذي قدّمه التلفزيون القطري واختتمت حلقاته الـ(11) الأسبوع الماضي وحقق الموسم الخاص به خلال ساعات عرضه نسب مشاركات عالية، واحتل مركزًا متقدمًا ضمن منصة “ترند تويتر”.
البرنامج الذي أقصده هو برنامج (فصاحة) الذي أطلقته المؤسسة القطرية للإعلام تحت شعار “سهم الحرف.. في قلب المعنى” وتدور فكرة البرنامج حول اكتشاف قدرات الفصاحة لدى المتسابقين ومهاراتهم التنفيذية من وعي وإدراك وفصاحة لسان وقدرة في التعبير.
يجري اختيار المتسابقين في هذا البرنامج الذي يعدّ الأول من نوعه على مستوى العالم العربي بإخضاع كل مشارك لثلاثة اختبارات تتعلق بالمعالجة الذاتية من خلال إخبار لجنة التحكيم بقصته في فقرة “من أنت؟” ثم المعالجة الفردية حيث يعطي موضوعا من طرف لجنة التحكيم ويتحدث حوله في دقيقتين، وأخيرا المعالجة الجماعية لموضوع يتم طرحه على كل المتسابقين ويتم تحضيره على الأجهزة اللوحية ويخضع لتقييم لجنة التحكيم المكونة من عدد من الخبراء والمختصين تم اختيارهم بعناية تليق بالهدف من البرنامج وهو إظهار حجم ثراء اللغة العربية في الفصاحة والبلاغة والبيان.
وفي حين يجري حسم الفوز بين المتنافسين في كل حلقة من خلال لجنة التحكيم التي تقرر من ينتقل منهم إلى الحلقة التالية، فإن الحلقة الأخيرة التي جرت فيها التصفية النهائية بين ثلاثة متسابقين، كان الحكم فيها هو الجمهور من خلال تصويتهم المباشر للمتنافسين الذين بلغ عددهم قبل التصفية النهائية (36) مشاركًا أبدعوا أيّما إبداع في إظهار جماليات اللغة العربية وقوّة تعبيراتها من خلال المثقف المعتز بهويته وانتمائه وسمات المثقف العربي المعتز بهويته وانتمائه أمام ذاته ومجتمعه وأمته والعالم.
وأكثر ما يميز المشاركين هو كونهم من عدة دول عربية وأنهم من فئة الشباب الذين يعاصرون سوء الاهتمام باللغة العربية (اللغة الرسمية الوطنية) ويتابعون تراجع مرتبتها إلى الثانية أو الثالثة وصار تحدث نظرائهم بغيرها مفخرة وعلامة رقي وتقدّم خاصة عند المغتربين عنها والمنهزمين أمام ذواتهم، ممن ساعدهم على المضي في هذا التراجع ازدحام وسائل الإعلام المختلفة، وبخاصة التلفزيونية ببرامج تبتعد عن اللغة العربية في الإعداد والتقديم وتعتمد لهجات محلية ومختلطة حرمت جماهيرها من الاستمتاع بفصاحة لغتهم وبلاغتها وجمالها، وجعلت من مسألة عدم التمسّك بها أمرًا عاديًا في الوقت الذي كلنا يلمس ويشاهد مقدار تمسك مختلف الدول خاصة المتقدمة منها بلغتهم الوطنية وحرصهم على الظهور بها في شتى مناسباتهم وممارساتهم لشؤون حياتهم ومهامهم الرسمية وغير الرسمية، لا يتكلمون إلاّ بها، ولا يتعلّمون إلاّ بواسطتها، ولا يعلنون إلاّ بمفرداتها، يتفاخرون بها ويُعلون من شأنها ولا يرضون أن تنازعها في المقام والمكانة أي لغة أخرى.
برنامج (فصاحة) متميز في أهدافه، راقٍ في تطلعاته، شيّق في متابعته، يذكرنا بالاعتزاز بلغتنا التي صارت نهشًا للخراب والضعف حتى صدق عليها قول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لُعَابُ الأفاعي في مسيل فرات