منشور في جريدة الشرق القطرية
حري بنا ونحن نستقبل شهر رمضان المبارك أن نستذكر كم غيّب الموت عن هذا الشهر الفضيل من أعزاء وأقارب وأصدقاء كانوا معنا فيه، حزنّا لفراقهم وبكينا لوداعهم، وكم اكتظّت الأسِرّة بالمرضى الذين تتفطر قلوبهم وأفئدتهم، ويبكون لأجل أن يصوموا حتى ولو يومًا واحدًا من أيام رمضان، أو يقوموا ليلة واحدة من لياليه المباركة، ولكن حيل بينهم وبين ذلك! فلله الحمد والمنّة أن أقرّ عيوننا ببلوغ شهر رمضان الذي يحتوي على أعظم فرص العوْد إلى الله تعالى، والإنابة إلى طريق الرحمن وتصحيح مسار الحياة وولوج دروب الاستقامة بعد ضروب من التيه والضياع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشرّ الناس من طال عمره وساء عمله”. ولا يحسب أحد –وهو يرى تعاقب الشهور والأعوام عليه- أن طول عمره نعمة بحدّ ذاته، فإذا طال عمر العبد ولم يعمرّه بالخير فإنما هو يستكثر من إمهال وحجج الله تعالى عليه.
إن إدراك رمضان من أجلّ النعم، وما من شهر يدعو الكبير والصغير ببلوغه إلاّ رمضان، فكأنما هو أمنية حياة جديدة يحرص الجميع عليها ويتمنون عدم فواتها، لا لشيء سوى لأن أيامه ولياليه كالتاج على رأس الشهور، فهي مغنم الخيرات وكنز الطاعات والرحمة والغفران حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رغِم أنفه ثم رغِم أنفه ثم رغِم أنفه من أدرك رمضان ولم يُغفر له” رغِم أنفه: أي خسِر وخاب.
ورمضان أحد أغلى الفرص الربانية التي يجدر بنا عدم تضييعها والحرص على تحرير أيامه ولياليه مما تداخل عليه وهو بريء منه، واختلط به مما ليس منه، ومما لا يتناسب مع مكانته وأهميته بصورة جعلت من رمضان عند الكثيرين مجرّد ضيف ينقلهم إلى محطة أخرى من محطات الأنس والترفيه في حياتهم التي لا يكتشفون إلا متأخرين مقدار الضياع والهدر التي انقضى منها، يستوي في ذلك –للأسف الشديد- حتى أولئك البعض من العجائز والشيّاب، ممن تقدّمت بهم الســنّ وتقوّست عظام أجسامهم واحدودبت ظهورهم وابيضت شعور رؤوسـهم، وصار لهم أولاد وربما أحفاد، وقاربت أرجلهم أقبية قبـــورهم، ودنا رحيلهم إلى بارئهم عزّ وجل؛ من دون أن يفكروا في تنظيف أموالهم وتطهير ثرواتهم وبالتالي تحسين خاتمتهم بالأعمال والأقوال الصالحة، وألاّ يكونون ندًّا لله في محرماته ونواهيه وارتكاب معاصيه، فما بقي من الأعمار أكثر مما مضى، ولن يحتمل ما بقي من سني حياتهم المزيد من الخطايا.
فلا يفرّط أحد في موسم الطاعات الذي نحن في بداياته خاصة بعدما -للأسف الشديد- قد دار الزمان وتم اختطاف رمضان منه على نحو لا يتناسب مع مكانته وأهميته فأصبح تُخصص له برامج وفوازير في الشاشات الفضائية يسهرون عليها أو يجوبون الأسواق والمجمعات أو تجدهم في منتصف الليل بالمقاهي ومايشبهها يتسمرون على الأكل والشيشة فيها حتى الفجر، وفي النهار تجدهم نياما كالجيف، لا حسّ ولا حركة، وإذا استيقظوا ينتابهم كسل وخمول وبلادة ذهن. وهكذا يتضاعف مقدار الهدر والضياع في شهر كان السلف الصالح يتسابقون إلى فضائله والنيل من معينه وكان شعارهم فيه “وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى” التي يُحكى في سبب نزولها أن موسى عليه السلام حين نجّاه الله وبني إسرائيل من فرعون وقومه، وقطع بهم البحر، وعدَهم للقاء في جانب الطور الأيمن، فتعجّل موسى إلى ربه وأقام هارون في بني إسرائيل يسير بهم على أثر موسى. فلما وصل موسى قبلهم سأله المولى عز وجل: (وَمَا أَعْجَلَكَ) وأي شيء أعجلك (عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى) فتقدمتهم وخلفتهم وراءك، ولم تكن معهم (قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي) يقول: قومي على أثري يلحقون بي (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) أي وعجلت أنا فسبقتهم ربّ كيما ترضى عني.
ثم ذهبت هذه الآية الكريمة شعارًا يرفعه المتسابقون إلى فعل الخيرات والتقرّب إلى الله، والتنافس على نيل مرضاته سبحانه وتعالى خاصة في مواسم الطاعة والعبادة كشهر رمضان الذي بدأنا في استقباله باعتباره من نوادر الفرص الثمينة، التي لو أمعن الإنسان التأمل فيها لوجد أنها قد لا تتكرّر، فلربما هو بين فاقد أو مفقود..بارك الله لكم شهره المعظم وأعانكم على صيامه وقيامه.
سانحة:
يقول المهندس أحمد الخطيب: المليارات التي تُصرف على المسلسلات بحجة أنها تمثل الواقع؛ لو صُرفت على الواقع لغيرته!