المقالات

هذه بضاعتكم رُدّت إليكم ..

أصبح من المعروف في واقع ” الميديا ” عندنا أنه كلّما رأينا من يتهافت على نشر صورته واسمه اكتشفنا أن في الأمر عقدة نفسية تتعلق بالبحث عن إنجاز أو تغطية قبْح وعيوب أو إخفاء عجز وفشل . ولذلك من يراقب زحمة الأسماء وسوق الصور سواء في متون الصحف أو حسابات ( الانستغرام ) وبقية وسائل التواصل لن يتعب كثيراً في التعرف على هذه النوعية من المسؤولين والشخصيات التي صارت تلهث وراء الأضواء وتحرص على غثّ الجمهور بشكل شبه يومي بصورها وأخبارها الفارغة وضجيج إعلامي و( شو )  دون أن تأبه بأن العبرة بالمضامين والأعمال وليس في الصور والأشكال . ومن غير أن تتفكّر في المقولة المشهورة عن المغفور له بإذن الله صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت الشقيقة طيب الله ثراه ” نريد أن تكون الإنجازات تصريحاً لا أن تكون التصريحات إنجازاً ” .

 ولقد تعاظم هذا النمط البائس والسمج في التعاطي الإعلامي حتى أصبح كما المرض العضال الذي ضاعت بسببه بوصلة العمل والمهام وضعُف الإنجاز وتلاشى الفعل وتغير الاختصاص ، فغدت المسؤولية ونطاق التكليف منحصرة في مجرّد صورة وديكور ومظهر خارجي يغطي فراغ داخلي وخواء مضمون ، وهروب عن الفعل والتأثير .

حدّثني ذات مرّة أحد طلبة تخصص الإعلام بأنه حاول أن يعمل دراسة حول الأخبار المحلية في صحافتنا بحيث يسقطها على المعنى الاصطلاحي لمفهوم الخبر الصحفي ويربطه بمدى قربه باهتمامات القراء فاكتشف أن مايزيد على ثلاثة أرباع الأخبار المحلية اليومية لاتنطبق عليها معايير قياسه التي تعلمها في تخصصه ، فهي تتعلق باستقبالات وإشادات وشكر وبيانات وماشابهها مماترون وتقرأون .

وللأسف الشديد فإن هذه ( ملهاة الصورة ) تطورت واستفحلت ، ولم تعد قاصرة على شخصيات ومسؤولين مهووسين بالشكل دون المضمون ؛ وإنما أصبحت مؤسسات وجمعيات قائمة وموجودة فقط كمظهر أو ( للشو ) أو مجرّد ديكور ، لاينجز ، ولايهشّ ، ولاينشّ ، لاتتذكر لها إنجازاً ، ولاتعرف لها عملاً ولاتلاحظ عنها نشاط ، ولاتتبنى مشروعا ، وإنما هي فقط كيان قائم لأجل أن يُقال أن هذه المؤسسة موجودة ! فيما هي في حقيقتها مجرّد صورة وشكل ، لا أكثر ولا أقل .

ولعلّ جمعية الصحفيين هي أحد أكثر تلك الأمثلة وضوحاً في هذا المضمار ، مضمار المؤسسات الصورية الخالية من الأفعال والبعيدة عن الإنجاز والتأثير – مع كامل الاحترام والتقدير لأشخاصها والقائمين عليها – حيث لايكاد يُذكر لها أي إنجاز أو مشروع حقيقي صبّ لصالح الأسرة الصحفية ، وباتت لاتبدي أي حراك يتناسب مع مسؤوليتها المفترضة تجاه الجسم الصحفي ، ولم تسع لصون حقوق المنتمين إليها وحفظ كرامتهم وأرزاقهم وفرْض احترامهم ، ولا أريد أن أسترسل في ذلك حتى لايستغلّ آخرون كلامي في غير وجهته لكنه بات أمراً واقعاً أن الكتاب والصحفيين هم – ربما – الأسوأ وضعاً والأقل حماية بين شتى صنوف الوظائف والمهن ، لاضمان يحميهم ولامستقبل يطمئنون فيه إلى أن أرزاقهم محفوظة ، ووظائفهم ورواتبهم مصانة . وأغلب مايُقال عن مكانة الصحفيين وأهميتهم لايصمد أمام مخاوف وخواطر الانكسار الصحفي عندي وعند غيري ممن يرون أن جمعيتهم أصبحت أكثر بعداً عن القيام بهذا الدور المهني المفترض فيها . وممن يرون أنه لاظهر لهم يدافع عنهم و( يفزع) لهم في مؤسسات أعمالهم التي قد تدار على طريقة شيخ القبيلة أو طريقة إدارة ( بقالة ) أو ( خبّاز ) أو طريقة ( خالتي قماشه ) أو غيرها من أنواع الإدارات المركزية البالية التي عفى عليها الزمن ومضى عنها القطار.

على المستوى الشخصي ؛ تواصل معي أحد الإخوة الأعزاء ، أكنّ له كبير الاحترام والتقدير من أجل تجديد عضويتي في جمعية الصحفيين بمناسبة قرب انتخاباتها ، عضويتي التي امتدّت فيها لأكثر من ثلاثة عشر عاماً ، فقلت له أن جمعيتكم قد فشلت في تنفيذ البند الثاني من المادة السابعة في نظامها الأساسي: ” رعاية حقوق الصحفيين والدفاع عن مصالحهم وتمكينهم من أداء رسالتهم الصحافية والعمل على ضمان الحرية اللازمة لهم لأداء واجبهم الصحافي ” . فقد تم إيقافي عن الكتابة الصحفية بصورة لاينقصها التعسف ، بل كل من يسمعها يدخل في نوبة من الاستغراب والضحك المشوب بالحزن على مكانة الكتاب والصحفيين خاصة أن الإيقاف يتعلق بمقال غير منشور في الصحيفة ! 

وأوضحت لهم أن إيقافي عن الكتابة الصحفية على هذا النحو قد شابه التعسّف والإساءة لتاريخي المهني الممتد كل هذه السنوات ، أكثر من (13) سنة وشكّل في أسبابه إهانة غير لائقة للصحفيين وأصحاب الأقلام الذين قد يتعرّضون لذات حالتي طالما أنه لاتوجد لوائح وأنظمة تحمي حقوقهم وتمنع تكرار مثل هذا التعسّف ، وطالما أن جمعيتكم الموقرة لم تتحرّك للاضطلاع بدورها المناط بها والمتوقع منها في حماية الصحفيين ورد الاعتبار لهم في ظل تزايد حالات تسريحهم أو إيقافهم بقرارات فردية لاتتبع فيها الإجراءات القانونية المفترضة والمعمول بها في شتى المهن والوظائف بحيث أن العمل الصحفي أصبح – بالرغم من أهميته ومكانته – محلاً للممارسات التعسفية وضياع الحقوق المادية والأدبية ، وصار – أو كاد – أن يكون هو المهنة الوحيدة التي من الممكن أن يصحو صاحبها من نومه فيتفاجأ أنه موقوف أو مفصول أو خفضوا راتبه ، بلاتنبيه ولا إنذار ولاتحقيق !! لكل ذلك لاتصلح جمعية الصحفيين أن تمثلني مادامت ارتأت لنفسها أن تكون مجرد صورة في سوق نشر الصور وزحمة الأسماء ، فاقدة للنبض والحيوية عاجزة عن حماية أعضائها وغير قادرة على الوفاء بتنفيذ أهم بنود نظامها الأساسي . بكل الحب والودّ والاحترام ؛ أعتذر عن تجديد عضويتي وأعتذر عن انتخاباتكم ، وهاكم بطاقتي .. هذه بضاعتكم رُدّت إليكم .

سانحة :

جاء في معنى الكلمة المشهورة ( سمنديقا ) أنه كان تجار الخليج في الهند يتركون بضاعتهم عند حارس هندي ويقضون أشغال أخرى . فيقعد هذا الحارس يحرسها ( لاشغل ولا مشغلة ) فإذا مرّ أحد عليه وسأله عن سعرها يقول له أنا : سامان ديغي ، يعني البضاعة ليست لي وأنا فقط أحرسها .

سامان تعني بضاعة . وديغي تعني حارس .

رأي واحد على “هذه بضاعتكم رُدّت إليكم ..

  1. جزاكم الله خير أستاذ جمال
    كما تفضلت إننا في زمن الصورة الخالية التي لا تعبر عن أي دور حيوي ممكن يحدث أثر في حياة أي فئة من الناس.
    وعالم الصحافة عندنا موجه للأسف.

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s