إنها حالة غريبة تُضاف إلى سجل التراجع والتردّي الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية في مختلف المجالات ، حيث أنه بالرغم من التطوّر الهائل الذي تشهده أدوات الإعلام وعموم (الميديا) ، وتنامي الاهتمام الجماهيري بها فضلاً عن الإمكانيات والموارد الضخمة التي تمتلكها عموم بلداننا مما يمكن توظيفه لأجل إيجاد إعلام قوي ومؤثر ، يمسك بزمام المبادرة في عرض قضايا الأمة والدفاع عنها وإبرازها أو تسويقها على نحو يسلب الألباب ويستقطب الاهتمامات و ( الترندات ) ؛ بالرغم من كل هذه المقوّمات والإمكانات إلاّ أن الإعلام العربي والإسلامي لايزال بعيداً عن التأثير وتفصله مسافات – ربما – شاسعة عن بؤرة الأحداث والارتكاز ، لم يعد صاحب السبْق والمبادرة حتى لو كانت الأحداث تـدور في رحاب أراضـيه وأجواء سمائه .
استذكرت هذه الحالة المزرية وأنا أتابع مقدار الاهتمام والانتشار الكبير الذي نالته صورة الطفل السوري عمران دقنيش من خلال فيديو قناة الـ CNN الذي عرضت خلاله المذيعة الأمريكيةKate Bolduan صورة هذا الطفل مغموراً وجهه بالدماء داخل سيارة إسعاف بعدما تم إنقاذه من تحت أنقاض منزله في مدينة حلب السورية إثر استهداف آثم وغاشم من القوات الروسية . المذيعة ( غير العربية ) أبكت الكثيرين عندما لم تتمالك نفسها وهي تصف حالة الطفل عمران وفقدانه لأمه وأبيه ، فدخلت نوبة بكاء غير متوقعة ، فانتشر فيديو هذه القناة ( غير العربية ) في الآفاق مثل انتشار النار في الهشيم ، وأصبحت صورة عمران حينذاك عنواناً وغلافاً و( بروفايلاً ) و (ترندا) على مستوى العالم كلّه .
على أن صورة الطفل عمران ليست هي الصورة الوحيدة التي تختزنها ذاكرة الإنسانية بشأن أحداث ومآسي مماثلة ، جرت آلامها وفصولها على أراضٍ عربية وإسلامية لكن عرضها ومبادرة السّبْق في نشرها كانت بأيْد إعلام أجنبي !!
على سبيل المثال وليس الحصر ؛ كلنا يذكر حادثة قتل الطفل الفلسطيني محمد الدرّة في قطاع غزة في 30 سبتمبر 2000م إذ انتشر فيديو مشهد احتماء جمال الدرة وولده محمد خلف برميل إسمنتي، ثم مشهد احتماء الأب وابنه ببعضهما البعض، ونحيب الصبي، وإشارة الأب لمطلقي النيران بالتوقف ، ثم إطلاق النار عليهما وسقوط الصبي ميتاً في حضن أبيه ، كان هذا التسجيل التاريخي الذي مدّته حوالي دقيقة واحدة قد التقطه بكاميرته المصور الفرنسي شارل إندرلان المراسل بقناة فرنسا (2) !!
وإبّان المجاعة التي عصفت بالسودان عام 1993؛ انتشرت صورة مؤثرة أحدثت جدلاً وقلقاً على مستوى العالم ، لم تهدأ الصحف ووكالات الأنباء عن نشرها وإبرازها كرمز للكارثة الإنسانية التي حلّت بالسودان . الصورة كانت لنسر يراقب طفلة وهي تحتضر من الألم وشدّة الجوع حتى يأكلها ، من فظاعة الصورة لم يستطع مصوّرها مواصلة حياته وتسببت في انتحاره بعد ذلك تاركاً رسالة قال فيها : ” أنا آسف جدا جدا لكن ألم الحياة يفوق متعتها بكثير لدرجة أن المتعة أصبحت غير موجودة ، أنا مكتئب تطاردني ذكريات حية من لأطفال يتضورون جوعًا أو جرحى ” . أيضاً كان من التقط هذه الصورة ونشرها هو المصوّر ( المنتحر) الجنوب أفريقي كيفين كارتر ( غير عربي ) !!
وفي التاسع من شهر مايو 2004 استيقظ العالم على وقْع صورة السجين العراقي الذي تنهش الكلاب لحمه وجلادوه المتوحشون يستمتعون بعذابه. في سجن أبوغريب ، تلك الصورة فتحت بعد انتشارها الباب واسعاً لما سُمي فيما بعد فضيحة تعذيب السجناء في سجن أبوغريب من قبل ( المارينز ) الأمريكان وتم بيانها العام 2007م في فيلم وثائقي بعنوان ” أشباح أبوغريب Ghost of Abu Gharib ” فضح الممارسات الأمريكية وعرّى حقوق الإنسان التي يدعونها وكشف سوءة الاحتلال . الصورة الفاضحة التقطها الصحفي سيمور هرش ، والفيلم الوثائقي أخرجه روري كندي . وبالطبع الاثنان غير عربيين !!
وفي شهر سبتمبر من العام الماضي 2015 اهتز وجدان العالم لصورة طفل سوري ميت غرقًا وملقى على وجهه على رمال الشاطئ بعد مغامرة هروب عائلته في قوارب الموت التي تحمل اللاجئين السوريين وتمخر بهم عباب البحر لعلّها تجد ملاذاً لها من جحيم الحرب السورية ، انزلق خلال تلك المغامرة الطفل من بين يدي والده ليجدوه فيما بعد منكبا على بطنه فاقدا الروح على شاطئ شبه جزيرة بوضروم التركية ، وتنشر صورته صحيفة “غارديان” البريطانية (غير عربية) لتصبح صورة الطفل الغرقان إيلان بمثابة ( الايقونة ) التي اهتزّ لها العالم .
المشاهد والصور التي تخلع لها القلوب وتقشعرّ منها الأبدان وتنزف لسببها الضمائر وملأت آفاق الدنيا ليست قليلة ، وليست – من كثرتها وتعدّدها – عصيّة على الاستدعاء لكنها للأسف الشديد بدون أي تدخّل عربي فيها سوى أنها جرت فقط على أراضيهم ووسط بلدانهم !!
سانحة :
أمام حالة التخلّف عن الرّكب والعجز عن المبادرة والسبق وتفضيل البقاء على إعلام ( السّحّ الدّح ابمبو ) بالرغم من وجود مقوّمات وإمكانات وقدرات التطوّر والارتقاء ؛ لانملك إلاّ أن نقول “ المرعى أخضر ولكن العنز مريضة ” .