المقالات

النائحات المستأجرات الجدد

منشور في جريدة الشرق القطرية : http://cutt.us/KGQXx

فيما مضى من الزمان ، كان للعرب عادات غريبة ، فيها شيء من الحُمْق أو الجاهلية ، أنشأتها الحاجة أو تطوّر حياتهم ، وكانت لأغراض التكسب والارتزاق أو حتى لأجل المكر والخديعة . ثم مضت هذه العادات كما العرف لديهم واستمروا عليها واعتبروها – ربما – من لوازم مجتمعاتهم وممارساتهم لشؤون تصريف حياتهم ، بل مضت معهم حتى بعد اكتشافهم خطأ مسارها أو سوء استغلالها حيث أن بعض العادات تتمكن في المجتمعات ويصعب انفكاكها عنه وتبقى ملازمة لهم إلى أن يثور على مثل تلك الأعراف الأسوياء من الناس الذين أرادوا احترام العقول وإنزال تلك الأعراف والعادات مكانتها الصحيحة في وعي الناس وتفكيرهم الجمعي.

من تلك العادات البالية – مثلاً- استدعاء امرأة في مناسبات أو مآتم العزاء ، يكون عملها فقط النياحة ، أي البكاء و( الولولة ) وتهييج الأحزان ، بأن تعدّد مناقب الفقيد وتذكر مآثره وتندب فقده ، وتُسقط من الدموع غزيرها لتضفي جواً من الحزن والأسى ، ثم في نهاية (الردح) تأخذ على ذلك مالاً وأجرا !!

وربما أفضل من عبر عن هذا التزييف هو الشاعر مالك بن الريب الذي أصابه مرض شديد أحسّ معه باقتراب موته فنظّم قصيدة يرثي فيها نفسه أصبحت فيما بعد من أروع قصائد الرثاء ، وعرفت ب ( بكائية مالك بن الريب ) . ومما جاء فيها إشارته إلى هذه الوظيفة القبيحة ( النياحة ) المدفوعة الثمن ، وذلك عندما قال في مرثيته الرائعة :

                فمنهن أمي وابنتاها وخالتي                وباكية أخرى تهيج البواكيا

ولذلك نشأ عند العرب في أمثالهم ” ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة ” ؛ فالنائحة المستأجرة هو اللقب الذي تُسمى به النساء العاملات في هذا المجال ، مجال سكب دموع ( العيارة ) والتكسّب في أحوال الحزن . وذلك على عكس النائحة الثكلى التي يموت لها عزيز فيكون بكاؤها حقيقياً صادقاً ودموعها ساخنة فيها مرارة الحزن والحسرة ولديها القدرة الفطرية على التأثير لالشيء سوى قيمة الصدق والإخلاص التي تنفرد بها عن النائحة المستأجرة.

أي أن الفرق بين النائحتين (المستأجرة والثكلى ) إنما يظهر في القدرة على التأثير الحقيقي ؛ بالضبط كما في حال الخطباء وأصحاب الأقلام وماشابههم من الوسائل والشخصيات الإعلامية والعامة التي تلقي خطبا أو تخط كلمات أو تدبج تصريحات في غاية الروعة وفي منتهى البلاغة و( متعوب عليها) لكنها تكون فاقدة القيمة والمتابعة عند عموم المتلقين بخلاف آخرين أقلّ بلاغة وتنقصهم الفصاحة ، لكنهم في دنيا الناس لهم مكانة ويلتف حولهم جماهير وتتأثر بهم جموع من المتابعين . وقد نُقل عن بعض السلف الصالح أنه كان إذا وعظ أبكى الناس حتى تختلط الأصوات ويعلو النحيب وقد يتكلم في المجلس من هو أغزر منه علما وأجود منه عبارة فلا تتحرك القلوب ولا يبكى أحد فسأله ابنه ذات يوم عن هذا ؟ فقال : يابني لا تستوي النائحة الثكلى بالنائحة المستأجرة ،إن الكلمة يابني إذا خرجت من القلب وقعت في القلب وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان “.

للأسف الشديد أن هذه الوظيفة القبيحة ( النائحة المستأجرة التي لفظها العرب في قديم الأزمان عادت إلينا في زماننا الحاضر بأثواب متنوعة ، وأشكال متطورة ، لم تقتصر فقط على وظيفة البكاء والنياحة على الأموات وإنما امتدت لتشمل نفاق الأحياء وتملّقهم والتطبيل لهم ، وتوسعت لتأخذ مهام التدليس والفبركة وماشابهها من مهمات وتكليفات تزوير الحقائق بحيث أنها أصبحت مهنة لها أصولها ، وحرفة ذات اشتراطات ومتطلبات ، يزيد ثمنها وينقص بحسب ( النياحة ) المقدمة وقدرها ونوعها ، وتضاعفت أسعارها ، واحتوتها مؤسسات وفضائيات ودور نشر وصحافة وحسابات في التواصل الاجتماعي ومثلهم ممن رأوا فيها مرعى خصبا لشراء الذمم وبيع الكذب وترويج القذارة ، بوصلتهم مايتحصلون عليه من أموال وأثمان تضيع لأجلها مهنية الصدق وقيمة الإخلاص.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s