منشور في جريدة الشبيبة العمانية http://cutt.us/NxQPD
يُروى في ناصع تاريخنا الإسلامي المجيد ، ونقلاً عن كتاب عيون الروضتين لمؤلفه القاضي ابي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن اسماعيل المقدسي أن شابّاً من بيت المقدس كتب إلى الناصر صلاح الدين الأيوبي رقعة جاء فيها ” يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس ، جاءت إليك ظلامة تسعى من بيت المقدس : كل المساجد طهّرت وأنا على شرفي منجّس ” وكتب في آخرها ” نشتاق لنسمع الأذان من الأقصى” . حينذاك بكى القائد الكردي – ليس عربياً – صلاح الدين حتى بلّت دموعه الرقعة وأسّس من ساعته جيشاً جعل مهمته تحرير الأقصى ؛ وقد كان له ما أراد .
لكن مضت الأحداث وتوالت السنون حتى غدتً فلسطين بما فيها الأقصى محتلاً وأسيراً بأيدي الصهاينة ، ليواجه المسلمون والعرب هذه القضية الفاجعة ، ويضعوها في مقدّمة قضاياهم ، لاتنافسها قضايا أخرى . كانت ملء أسماعهم وأبصارهم ، تتصدّر أحداثها جميع وسائل إعلامهم ، هي أحاديث الناس في بيوتهم ومجالسهم . كان الأقصى الشريف هو القلب النابض الذي يجمع عند المساس به كل الأطياف والانتماءات – على اختلاف توجهاتهم – يتوحدون كلهم لنصرته ، وتكون القدس هي نشيدتهم ، وتحريرها أمنيتهم التي يشتاقون إلى تحقيقها ، لاينازعهم في ذلك أي شأن آخر.
حينذاك ؛ كان المساس بالأقصى – أي مساس – كفيل بأن تضطرب له الموجات الهادئة عند الشعوب وتتحوّل إلى مظاهرات عارمة ومسيرات غضب هادرة واعتصامات واحتجاجات تهزّ العالم الإسلامي وتموج فيه من مشارقه إلى مغاربه ، فتضطر هذه الهبّات الجماهيرية المحتلّين والمتآمرين ومعهم المتواطئين للتراجع والانصياع لـ (فزعة ) الشعوب والخوف من استمرارها وبالتالي تفاقمها .
وكان ذلك قبل أن تسير – للأسف الشديد – في الأنهار مياه آسنة ، فتتغيّر الأمور وتختلط الاهتمامات ، فتُبلى القضية ( الأم ) وتُبتلى في أصول كانت ثابتة وأساسية ، لم يخطر على بال أسوأ التقديرات والتوقعات أن هذه الأصول ستُمسّ وستتبدّل أو تضعف قوّتها ومكانتها.
في اعتقادي أن أكثر ما تعاني منه الآن قضية فلسطين أمران ، هما أكبر وأشدّ من الاعتداءات الحالية على الأقصى : أوّلهما : فلسطنة قضيتهم : فقد تحقق ذلك – أو كاد – وتراجعت مرتبة قضية الاحتلال الغاشم لأرض فلسطين في أخبار الفضائيات ، ونساها أو تجاهلها عموم الإعلام ، واشتغلت ( ماكينات ) متنوّعة على صرْف الشعوب العربية والإسلامية عن قضيتهم ( الأم ) ليعتبروها شأناً فلسطينياً لايخصّهم منه سوى بضعة بيانات استنكار وعدد من حملات التبرعات والمساعدات . ولسان حال الناس يقول ” خلوا الفلسطينيين يحلّوا قضيتهم بأنفسهم فذاك شأنهم ” . وزاد من هذا الضياع والفقدان انشغال العرب والمسلمين بقضايا وانقسامات وجروح نازفة أخرى ، هنا وهناك ، أسهمت بصورة أو أخرى في سلْب البعد الإسلامي الواسع من قضية فلسطين وتجفيف جذوته الإسلامية المتّقدة ، وتحوّلت من أم القضايا إلى واحدة ضمن قضايا عدّة يئن من وطأتها الجسد الإسلامي المثقل بأمراضه . بل أصبحت أهم مسألة بالنسبة لمسجدها الأقصى الأسير هو فتحه للصلاة والتمكين لزيارته وفقط . بينما ذهب أدراج الرياح واجب تحريره وتطهيره هو وبقية الأرض الفلسطينية من دنس المحتلين الصهاينة .
على أن الأصل الثاني الذي تغيّر بشأن قضيتنا الأم هو مايمكن أن نطلق عليه : التثبيط عن المقاومة : حيث أنه بالرغم من وجود احتلال غاشم وقاتل وفاجر ، وصادّ عن الدين ، ومدنّس للمقدّسات ؛ تراجع الجميع منذ زمن عن مناهضته واستعظموا فكرة مقاومته وجرى نسيان هذا الأصل الشرعي والإنساني و( المنطقي ) في مجابهة الغاصبين ومواجهة المحتلّين في ساحات النضال والجهاد . ولم يبق للكلام فيه أي نصيب . وتعدّى الأمر حالة غياب المقاومة وتلاشي الكلام عنها وانتهاء الدعوة إليها إلى حالة التثبيط عن مقاومة الصهاينة وشيطنتها ومنعها والدعوة للاستكانة والعيش معهم ، حتى أن البعض صار يبخل عن وصف القتلى الفلسطينيين بالشهداء كما السابق .
سانحة :
تذكروا دائماً هذا الحديث الشريف ، قال رسول صلى الله عليه وسلم: ” لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لايضرّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.