من سافر أو عمِل أو دَرَسَ أو زار لأي غرض ما أمريكا أو غيرها من مختلف دول أوروبا أو ماشابههم من الدول الحضارية المتقدّمة سواء في الشرق أو الغرب ؛ يمكنه أن يكتشف – بكل سهولة – مقدار تمسكهم بلغتهم الوطنية ، وحجم حرصهم على أن تكون لغتهم في وطنهم هي لغة التعامل في شتى مناسباتهم وممارساتهم،لايحيدون عنها ولايفضلون عليها غيرها. فذلك مبدأ راسخ وشأن عام ومنتشرهناك ، لأنهم يعدّون لغتهم أحد أهم مكوّنات هويتهم الوطنية . ولا يمكن لأي زائر لتلك الدول أن تخطئ عيناه أو أذناه مقدار تمسكهم بلغتهم الوطنية، وحرصهم على الظهور بها في شتى محافلهم وإدارتهم لشؤون حياتهم ومهامهم الرسمية وغير الرسمية. لايتكلمون إلا بها، ولايتعلمون إلّابواسطتها، ولا يعلنون إلاّبمفرداتها، يتفاخرون بها ويُعلون من شأنها ولايرضون أن تنازعها في المقام والمكانة أية لغة أخرى، كل شيء عندهم لايمكن أن تنفك صلته بلغتهم الرسمية والوطنية مهما علا أو قلَّ شأنه.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتوقع أن تتجرأ أو أن يكون في مقدور أي مؤسسة أو وزارة أو هيئة أو شركة أو بنك ما في تلك الدول أن تخالف تعاملاتهم وخطاباتهم اللغة الأم فيها أو أن تقدّم عليها لغة أخرى مؤكدين بذلك على روح انتمائهم والتزامهم بهويتهم التي لايرضون أن تُمسّ في أحد أهم مقوّماتها التي هي لغتهم .
بل إن كثيراً من تلك الدول باتت تخصص أو – ربما- تفتح المجال واسعاً لإعطاء منح دراسية شاملة ومجانية للراغبين في الدراسة الجامعية فيها من مختلف أنحاء العالم ، لكنها تشترط لذلك تعلّم لغة الدولة وإتقانها لمدة عام دراسي كامل إعلاء لمكانتها وحفظا لبقاء وجودها .
غير أن بوصلة اللغة العربية في بلدانها الأم قد شابها الكثير من الانحراف وأصابها الضغف ودبّ إليها التهاون إلى حدّ القبول بتراجعها أو حتى طمسها بعدما كانت من الأساسيّات والمسلّمات التي دونها خرط القتاد . ولم تعد اللغة العربية تحمل الأولوية المفترضة في مسائل الهوية والانتماء والثقافة، وتراجع الاهتمام بها وتحوّل إلى غيرها. وأصبحت (العُجمة) هي ما يفتخر به، وصار كبار القوم والمسؤولين يتنافسون في كلامهم وحوارهم على غير لغتهم، ولا يرون فيها -اللغة العربية- لغة تطورهم ونهضتهم مثلما ترى بقية دول العالم أن نهضتهم لا يمكن أن تتأتى بغير لغتهم .
للأسف الشديد ، يحدث عندنا في بعض الأحيان ، ودونما استنكار أو استغراب ؛ أن تحضر مؤتمراً أو ورشة عمل أو ملتقى أو حفل تخرّج أو مناسبات وفعاليات أو ماشابه ذلك فتكتشف أنّه بالرغم من أن المنظمين والمتحدثين والمستمعين وكلّ (الجمهور) بحرينيين إلاّ أن لغة المناسبة تكون غير اللغة العربية !!
بالطبع ليست تلك الحالة سوى نموذجاً مؤسفاً واحداً من نماذج وممارسات كثيرة وأصبحت مقبولة إلى حدّ التعوّد عليها لتغييب اللغة العربية عن مناحي متعددة ومجالات متنوّعة في حياتنا ، طالت مؤسسات وهيئات رسمية وغير رسمية ، لم تسلم منها حتى بنوكنا الإسلامية التي لها هيئات رقابة شرعية كنت أتصوّر أنها ربما تنتصر للغة القرآن الكريم فتجعلها على رأس مخاطباتها وعقودها وأدبياتها و(مسجاتها) لكنها – للأسف الشديد – ذابت ضمن حالة الاغتراب التي تعيشها لغتنا العربية ، حالة أننا عرب لكننا نبتعد عن لغتنا العربية بمحض إرادتنا ونقترب أكثر فأكثر لأن يكون خطابنا باللغة الإنجليزية أو أن تكون لغة حديثنا وحوارنا وطريقة كلامنا بلاروح ولاانتماء وإنما خلطة من اللغات والثقافات والمعارف يسمّونها تجاوزاً ( Chicken nuggets) .
أتمنى من كل قلبي من معالي الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة وزير الداخلية الموقر ، الذي يتصدّى مشكوراً وبكل اقتدار لمشروع طموح ومبادرة متميزة حول تعزيز الانتماء والهوية الوطنية أن تكون لغتنا العربية في مقدّمة تلك الخطط والإجراءات الحازمة للحفاظ على هويتنا وعدم تذويبها أو تمييعها . لأن اللغة هي المظهر الأول للهوية الوطنية وتوليه مختلف الدول احتراماً وعناية خاصة جدّاً لا تتنازل عنه أو تنهزم وتتحوّل عنه أمام لغات وثقافات وهويات أخرى.
سانحة :
قانون “توبون” هو قانون فرنسي صدر في الرابع من شهر أغسطس 1994م، يتعلق باللغة الفرنسية والالتزام باستخدامها وحمايتها أمام أي منافسة أو اندثار وتراجع، والدفاع عنها كونها اللغة الرسمية للجمهورية الفرنسية. سُميت بهذا الاسم نسبة إلى وزير الثقافة جاك توبون، الذي تحرّك لإصدارهذا القانون، باعتبار أن المهمة الرئيسية للثقافة تكمن في المحافظة على هوية وثوابت بلدهم، وأهمها اللغة الفرنسية. وللرئيس الفرنسي ساركوزي مقولة مشهورة في أحد خطاباته ” أن بلاده ولغتها وجهان لعملة واحدة ” .