المقالات

صناعة التفاهة

تكلم وكتب الكثيرون حول هذه الظاهرة التي أصبحت عابرة للقارات ، تزيد أسبابها وتنقص أو تتسع بيئاتها وتضيق هنا أو هناك لكنها بالتأكيد تلقى لها رواجاً أكثر في بلدان العالم الثالث التي تتكاتف فيها عوامل التلقي والتبعية والتقليد ولوازم (الشو) فيما تتراجع قيم الابتكار والإبداع والاختراع وتضعف معايير الإنجاز ويقلّ الاعتماد على الكفاءة والتخصص والمؤهل العلمي (الحقيقي) فتتحول مثل تلك المناطق إلى مراتع خصبة لمايُسمى بـ صناعة التفاهة التي صدر في العام 2017م كعنوان لكتاب (La mediocratie) للكاتب الكندي ألان دونو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك في كندا. وقامت بترجمته في العام 2020م الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة الكويت.

انتهيت مؤخراً من تصفح وقراءة هذا الكتاب المترجم الذي أصدرته دار سؤال للنشر في بيروت ويتكون من (368) صفحة مقسمة على أربعة فصول تصدّرها عنوان هام جداً يتناول الأطروحات الكبرى للكتاب لعلّ أهمها الذي حمل عنوان (الإطار العام : اللعبة) وجاء فيه : ” أن كل نشاط في الفضاء العام (سياسة أو إعلام أو أكاديميا أو تجارة أو عمل نقابي أو غير ذلك) صار أقرب للعبة يلعبها الأطراف فيه ، يعرفها الجميع رغم أن أحداً لايتكلم عنها ، تُستبعد القيم من الاعتبار ، فيُختزل النشاط المتعلق به إلى مجرّد حسابات مصالح متعلقة بالربح أو الخسارة الماديين كالمال والثروة أو المعنويين كالسمعة والشهرة والعلاقات الاجتماعية، وذلك إلى أن يُصاب الجسد الاجتماعي بالفساد بصورة بنيوية فيفقد الناس تدريجياً اهتمامهم بالشأن العام “.

يتناول الكتاب مواقع عديدة أسهمت في تثبيت أركان صناعة التفاهة كلغة الخطاب والثقافة والصحافة والتلفزيون والخبراء والجامعات وماشابه ذلك . ومن أهم ماتطرق له الكتاب مايتعلق بالشبكات ووسائل التواصل الاجتماعي ، حيث تقول مترجمة الكتاب في مقدمتها عن هذه الصناعة ، صناعة التفاهة ” أنها نجحت في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الأفكار فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل – المناظرات والخطابات والكتب والنشر والنقد ونقد النقد- ورغم كل هذه الفرص فقد نجحت هذه المواقع في تحويل التافهين إلى رموز” وتضيف: ” مايجعل من كثير من تافهي مشاهير السوشيل ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر النجاح هو أمر يُسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية كالعمل الجاد والخيّر للأهل والمواطنة الصالحة وحسن الخلق والأكاديميا والآداب والفنون والرياضة و..إلخ).

محطات الكتاب وبحوثه واسعة جداً ، ربما يُخيّل لقارئه أنه لم يترك واردة أو شاردة في أي مجال إلاّ وتطرّق فيها إلى تأثير صناعة التفاهة عليها يستعرض أحداثاً ونماذج تمثل قطاعات شلّت التفاهة قدرتها على الإنتاج وحرَفتْها عن الإبداع والتميّز وحوّلت الكثير من المهن والوظائف إلى مجرّد آلات تعمل للحفاظ على منصب أو كرسي العمل وفقط ، وقدّمت الشكل على المضمون وجعلت من الأوهام إنجازات وأتقنت بيع الهواء والهراء. مما انعكس على الجودة المأمولة للمخرجات وتفاقم حالات الإحباط ، وتخلّت المهن العليا كالشعراء والمثقفين والمفكرين والتشريعيين والأكاديميين عن أدوار قيادية سابقة ومفترضة لهم فيقول هذا الكتاب مثلاً عن أساتذة الجامعات الآن: ” ليس من المستغرب أن الأساتذة ينفقون جلّ أوقاتهم وهم يكتبون العروض التوضيحية عوِضاً عن الكتب ، ماذا يمكننا أن نتوقع من أناس يحتاجون إلى الكثير من العكازات التكنولوجية حتى يتحركون في مجالهم ؟!”.

الكتاب ممتع وثري بمعلومات وأحداث واستشهادات استطاع في نهاياتها الخروج بتصنيف لأنواع الشخصيات التافهة ؛ ومنها:الشخصية التافهة بطبيعتها حيث “يصدّق مايُروى له من أكاذيب لأنه منذ الطفولة لم يكن له حقّ في أي شيء آخر ، هو شخص طيّب يحبّه الأيديولوجيون وهو يعتنق نظرياتهم لأنها أصبحت جزءاً من بنيته الذاتية ، قد يأخذ حبوباً منوّمة ليلاً لكنه يُسرف في شرب القهوة نهاراً “. وهناك الشخص التافه المتعصّب “الذي يطلب المزيد دائماً ، يعرف جميع الحيَل، إنه يستيقظ من نومه وهو يتساءل عن الحيلة المشبوهة التي يمكنه ابتكارها لنيل الحظوة لدى سلطة ما ، وهو يفكّر في كيفية إزالة أي منافس قد يقف في طريقه وهو متاح باستمرار لأن يًصبح جزءاً من أي اصطفاف تفرضه الظروف” وهناك الشخص التافه رغماً عنه ” إذ لايخفي عن نفسه بأية طريقة الطبيعة العقيمة لما يفعل أو حتى الأذى الحقيقي الذي قد يتسبّب فيه عمله حيث على عاتقه أفواهاً يجب إطعامها ورهناً ينبغي دفعه، ينفذ عمله تحت الضغط ، مع ذلك ينفذّه مع شعور بالعار وهو يعي شرّ ابتذاله” .

على أن أكثر مايثير الاستغراب في هذا الكتاب هو مؤلفه والبيئة التي صدر فيها ؛ فمؤلفه أستاذ جامعي قدير في جامعة كينيك التي هي إحدى أرقى الجامعات في العالم . أما بيئته ؛ فهي كندا التي هي إحدى الدول المتقدّمة . وتنتمى إلى المجتمعات المتحضّرة والسبّاقة في شتى مناحي التطوّر . تلك المجتمعات التي يُعلى فيها شأن الكفاءات وتُحترم التخصصات ، الحريّات والحقوق مُصانة ، الجدّ والمثابرة عنوان حياتهم ، الالتزام والانضباط سلوكهم الطبيعي ، إنجازاتهم بارزة وملموسة في واقعهم ولاتحتاج إلى شهادات وجوائز من مؤسسات و(دكاكين) علاقات عامة ، مؤهلاتهم (متعوب) عليها حصّلوها بأنفسهم وجهدهم وليست من عرَق غيرهم ، وشهاداتهم العلمية حقيقية وليست مضروبة أو وهمية ، مجتمعات خالية من النفاق والتطبيل والعاهات و(طحين جميع الاستعمالات) ،إنتاجهم وصناعاتهم وكفاياتهم هي الشعار الذي يميّزهم، ومواصفات أخرى كثيرة لتلك المجتمعات التي تُصنّف دولها بالعظمى أو الأولى بحيث يصعب تصديق أو (بَلْع) أن كتاباً يصدرعن مثل تلك البيئات يسعّر النار على التفاهة ويصفها هناك بالصناعة ليتركنا في (حيص بيص) : ماذا سيكتب عن هذه الصناعة لو كان المؤلف في مجتمعات وبيئات دول العالم الثالث ؟!

سانحة :

تنبأ سيّد البشرية ببعض المواصفات الهامّة في صناعة التفاهة ولخّصها في جوامع الكلم ، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”، قيل وما الرويبضة يا رسول الله ؟ قال: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامّة”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s