بالأمس وقفنا في مقبرة المحرق نهيل التراب ونضع الطوب على شقيق الروح وتوأم النفس بوعبدالرحمن،عادل عبدالله بوجيري الذي تركنا نحن أبناء هذه الدنيا وفي عيوننا عبرة وقلوبنا تغصّ بالألم على رحيله بعد معاناة طويلة مع المرض كان خلالها مثالاً للمؤمن الصابرعلى قضاء الله وقدره المحتسب لرضوانه سبحانه وتعالى حتى أنه رغم قساوة مرضه لم يبد ألما أو جزعا،مخافة من أن يكون في هذا الألم أو الجزع اعتراضاً على قضاء الله.كنت أحزن لمرضه فيقابلني بابتسامته التي لاتكاد تغيب عنه.وكنت في بعض زياراتي لبوعبدالرحمن لاأملك دموعي حزنا على مرضه وحالته فيغمض عينيه حتى لايراني.كان هذا دأبه معي حتى الأسبوع الماضي عندما زرته وهو في أشدّ حالات مرضه رحمه الله.
لاأدري كم هي عدد السنوات التي جمعتني بصحبته وصرنا كما الأخوين الذين لايفترقان. أهي ثلاثة عقود أم أربعة. كانت بداية معرفتي به في الجمعية الدينية بمدرسة الهداية الخليفية حيث كان من أكبر مانهتم به هو تجميع الطلبة لإقامة صلاة الظهر بعد انقضاء الدوام في غرفة رتّبها وحوّلها كمصلّى الأستاذ عبدالرحمن الكوهجي بعد موافقة مدير المدرسة الأستاذ محمد عبدالملك . ثم فرقتنا الدراسة الجامعية كل في جهة تخصصه.
ربما في العام 1990 أو بعده قليلاً ؛ التقينا مرة أخرى، زادت محبتنا وصداقتنا. ثم اتفقنا أن نتعاهد على طاعة الرحمن بشيء لانخلفه أو نتخلّف عنه، فاخترنا أن نعتكف بعد صلاة فجر كل يوم جمعة حتى شروق الشمس فنصلي ركعتي الشروق اتباعا لتوجيه وهدي الرسول صلى الله عليه وسلّم: “من صلّى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلّى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامّة تامّة”. كان ذلك أجمل اتفاق ورابط بيننا حافظنا عليه لسنوات وسنوات في جامع أبي بكر الصديق بالمنامة حيث كانت شقة بوعبدالرحمن رحمه الله قريبة منه ثم واصلناه معا في جامع الرحمة بالمحرق عندما انتقل سكن بوعبدالرحمن قريبا منه. بعض الأحيان يتعثر هذا الاتفاق أو ننشغل أو نسافر أو نفتر لكنه ظل مستمراً إلى أن غيّبه المرض عن المسجد . كانت صلاة فجر الجمعة في جامع أبي بكر أيضاً لها طعم آخر حيث كان من المساجد القليلة – آنذاك- التي يقرأ الإمام في ركعتها الأولى سورة السجدة وفي الركعة الثانية سورة الإنسان اتباعا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلّم في صلاة فجر الجمعة. وكانت عائلة الكوهجي الكرام القائمة على رعاية المسجد تحرص على أن يكون الإمام من خيرة المقرئين والأصوات الجميلة .مما أذكره حينذاك أن مؤذن الجامع الشيخ أمان الله رحمه الله صافحنا ذات مرة بعد صلاة الفجر وسألني وهو يضحك: هل أنت من أهل الله مثل هذا ؟ وكان يقصد بوعبدالرحمن فأجبته بلا طبعا وبأن الفرق بيني وبينه مثل الفرق بين السماء والأرض.
لم يتعامل بوعبدالرحمن رحمه الله مع أحد إلاّ أحبّه ، يأسرك بصمته وهدوئه، لايخوض مع الخائضين وينسحب من القيل والقال. حمامة مسجد لايمكن أن تراه في غير الصف الأول فيه وله مكان بالصف الأول في مسجد الرحمة بالمحرق محجوز له من غير أن يحجزه خاصة في صلاة الفجر.وكان بعد صلاة الفجر يسلّم على المصلين فيصافحهم واحدا واحدا ويقبّل رأس الكبير منهم.
وعادة مايصلّي صلاة العصرفي مسجد كانو في المحرق، وبشكل شبه يومي لعلّه يصادف صلاة جنازة فيحضر الصلاة والدفان فيكسب الأجر الذي وعد به سيد الخلق صلى الله عليه وسلّم: “من شهد الجنازة حتى يُصلّى، فله قيراط، ومن شهد حتى تُدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين”.
كان مربياً فاضلا التفت حوله أعداد ليست قليلة من طلبة مراكز تحفيظ القرآن الكريم في البسيتين فكان مثل الأب في حنانه ورعايته لهم ومثل الأخ في دعمهم ومساعدتهم. كبُر أغلبهم لكنهم لاينسون فضل بوعبدالرحمن عليهم بعد الله تعالى،ولاينسون ودّه ومكانته وأعرف مقدار حزنهم اليوم على فراقه.
أما برّه لوالديه فهي مهمة مقدسة لديه، لايفتر أو يتعب منها؛ أذكر أنه لسنوات عديدة كان يوصل بسيارته جدّه – بعد أن ثقلت حركته – إلى مسجد الغاوي لأداء صلاة المغرب، لايتغيّب عن طلب جدّه إطلاقاً. وكان لايمكن أن يمرّ يوما دونما زيارة والدته حفظها الله، سواء حينما كان ساكنا في المنامة أو بعدما عاد للسكن في المحرق.
أذكر حينما اشتدّ مرضه وأصبح طريحاً للفراش ملازماً للسرير الأبيض طلبت منه أن يعطيني موعدا لزيارته في بيته كل أسبوع . فأعطاني موعدا أسبوعيا بعد زيارة والدته له وقال لي إن حدّة آلامه تخفّ بعد أن يرى والدته.
وأما زوجته أم عبدالرحمن الصابرة المحتسبة رفع الله شأنها؛ فقد ملأ حبّها شغاف قلبه فبادلته وفاء وتضحية ورعته عند مرضه ورافقته ليلاً ونهاراً في البيت وفي المستشفى ،وتركت كل شيء لأجله دون تعب أو كلل حتى آخر رمق من حياته.ورزقهما المولى تعالى ستة من الأبناء، هم كما الجواهر في دماثة الأخلاق ومضرباً للأمثال في الحياء والستر،وفي العلم والتفوّق.ومنهم من حفظ القرآن الكريم كاملاً حتى أني ماأفتأ أن أقول له يابختك فقد تم تعيينك ملكاً في الجنة وذلك استشهاداً بوعد الحبيب عليه الصلاة والسلام بأن حافظ القرآن يُلبس والديه تاجاً يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس.
وكان بوعبدالرحمن رحمه الله خدوماً محباً للخيرومعاونة الناس ومساعدتهم. لايتأفف من شيء، ولايجرح ولايؤذي أحداً أبداً، أبداً ربما إلى درجة الحساسية من هذا الأمر. ونقيا وورعاً وتقيّا وأميناً ،ولايقبل إلاّ الحلال ويؤمن بأن الرزاق هو الله وليس غيره . وكان قد تعرّض في السنوات الأخيرة في عمله إلى ظلم فادح وتعمّد إهانته والإساءة إليه، وهو العزيز ابن العائلة العزيزة الذي لايشتكي ولايظهر لأحد أبداً عما يصيبه ؛ فاجأني إحدى المرات بأنه سيتقاعد لأن بقاءه أمام تفحّش واستمراء الظلم عليه يشعر بأنه يطلب الرزق من يد ظالمه. ظننته يمزح خاصة أنه ماسبق له أن تحدث أو أفصح أو فصّل عن شيء،وهو بعيد عن سن التقاعد وليس من أبنائه من بلغ سنّ العمل لكنه كان قد حسم أمره وخرج عزيزا كريما حريصاً على ألايسيء لأحد والأهم حريصاً على ألاّ يستجدي أو يسأل غير المولى عز وجل.
أنهك المرض جسمه النحيف وفتت جسده وأفقده القدرة على الحركة،لم يحزنه كل ذلك ، بل كان حزنه على عجزه عن ارتياد المساجد ، كان إذا تذكر ذلك نزلت دموعه على خدّه. وقد طلب من أهله وضعه محمولاً في السيارة والوقوف بها قرب مسجد الغاوي عند صلاة كل جمعة واستمرّ على ذلك طويلاً ، ربما إلى ماقبل دخوله المستشفى مؤخراً.
اعتمرنا سويّاً ، ثلاث أو أربع مرات ،أكثرها في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ، كان يقضي جلّ وقته معتكفا في المسجد الحرام لاألتقيه في الفندق إلاّ نادراً. وفي إحدى المرّات سُرقت محفظتي فلما عرف بوعبدالرحمن أعطاني محفظته بكامل مافيها رحمه الله وأحسن إليه.
من أجمل ماقرأت عن بوعبدالرحمن بعد وفاته قوْل أحدهم: لو كانت مكارم الأخلاق تُقسّم لجلسنا حين القسمة مجلس اليتامى والمساكين علّنا نُرزق شيئا مما كان لديه. اللهم كما بسطت حبّه في تلك الحشود التي خرجت أمس لوداعه إلى مثواه الأخير ارفع مقامه في عليين وأسكنه فردوس الجنان وألهمنا وأهله وأبناءه وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
سانحة :
حضرت في إحدى العمرات درساً ضافياً في تفسيرالقرآن الكريم لأحد المشايخ بالحرم المكي، كان يفسر في سورة عبس ، فلما وصل الشيخ إلى قوله تعالى: ” من نطفة خلقه فقدّره، ثم السبيل يسّره، ثم أماته فأقبره” قال الشيخ: أيه أرأيتم ما أقصر الرحلة.
رحم الله بو عبدالرحمن عادل عبدالله رحمة واسعة.
إنه رجل مذهل حقا
عرفته عندما كنت أتعامل مع إدارة الموارد المالية بوزارة التربية، لم أره إلا هاشا باشا تبدو على محياه قسمات الطمأنينة والرضا.
وجهه ناصع الضياء وقلبه جلي التقاء.
تجالسه ولا ترغب أبدا في مفارقته، يأسرك بطيبته وسكينته وبشاشته.
هكذا هم رجال الله.
أحزنني أنني لم أستطع حضور جنازته لأنني لم أعرف خبر وفاته إلا من مقالك أستاذ جمال.
ولم أعلم أبدا مذ عرفته منذ نحو ١٠ أعوام أنه يعاني مرضا، ويغالب أوجاعا، وأستغرب عندما عرفت من مقالك أنه غادر الوزارة لمضايقات وظلم تعرض له، فهل يعقل أن يعاديه أحد؟؟!!
أي إنسان هذا يجرؤ على معادة الطيبة والصفاء والنقاء!!!
رحم الله بوعبدالرحمن رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته مع الشهداء والصديقين.
جزاك الله خير على هذه الذكريات الجميلة و الحقيقية و اشهد على ذلك . ونعم الأخ و نعم الداعية ونعم القدوة . رحمه الله رحمة واسعة
إعجابإعجاب
رحم الله بو عبدالرحمن عادل عبدالله رحمة واسعة.
إنه رجل مذهل حقا
عرفته عندما كنت أتعامل مع إدارة الموارد المالية بوزارة التربية، لم أره إلا هاشا باشا تبدو على محياه قسمات الطمأنينة والرضا.
وجهه ناصع الضياء وقلبه جلي التقاء.
تجالسه ولا ترغب أبدا في مفارقته، يأسرك بطيبته وسكينته وبشاشته.
هكذا هم رجال الله.
أحزنني أنني لم أستطع حضور جنازته لأنني لم أعرف خبر وفاته إلا من مقالك أستاذ جمال.
ولم أعلم أبدا مذ عرفته منذ نحو ١٠ أعوام أنه يعاني مرضا، ويغالب أوجاعا، وأستغرب عندما عرفت من مقالك أنه غادر الوزارة لمضايقات وظلم تعرض له، فهل يعقل أن يعاديه أحد؟؟!!
أي إنسان هذا يجرؤ على معادة الطيبة والصفاء والنقاء!!!
رحم الله بوعبدالرحمن رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته مع الشهداء والصديقين.
إعجابإعجاب