إلى والدي

الولد من كسب الوالد

كتبت هذا المقال بعد وفاة والدي رحمه الله في 24 أكتوبر 2009م ، وأهديه إلى إخواني وأخواتي وأعزائي حفظهم الله

حينما تختفي نظرات الأب ويغيب عن دنيانا فلا يبقى لنا سوى الذكريات التي يكون طيفها مصحوباً بالآلام والدموع لولا أن هذه حالنا ؛ فراق بعد لقاء ، ورحيل مهما طال البقاء ، والموت مصير كل الأحياء

إن أحدنا ، وقد أصبح أباً وربّ أسرة ، يعمل من أجل تربية أبنائه ، ويكافح لتوفير لقمة العيش لهم ويسدّ حاجاتهم المختلفة والمتنوّعة ، يشتكي تارة من ضيق ذات اليد وتارة من كدر الزمان وسوء الأحوال وصعوبة المعاش وتراكم القروض والديون وتضخم الحاجات ومتطلبات الأولاد ، وقد يكون على هذه الحال من الهمّ والحزن ردحاً من السنوات والسنوات ؛ يجدر به أن يتذّكر بإجلال وإعجاب أبيه ، تاج رأسه : كيف استطاع في ذاك الزمان – الأكثر فقراً والأشدّ عوزاً – تربيته وتنشئته وتعليمه في المدارس والجامعات والوفاء باحتياجاته منذ كان طفلاً ثم طالباً ثم زوجاً وربّ أسرة ؟!

في صغري لا أتذكّر أني في يوم من الأيام رأيت أبي قبل أن أذهب إلى المدرسة إذ كان يخرج مع بزوغ الفجر متوجهاً للباصات التي تنقله مع ذاك الرعيل من عمّال بابكو إلى ( الفنري) فلا يعود للبيت إلاّ قبل غروب الشمس ، كان منظره حينذاك بالـ (بلر سوت ) ومعه الـ ( السفرطاس ) ، لايسرّ أحداً وقد تلوّنت ملابسه واتسخت بالزيت والسواد حيث كان يعمل في تصليح السفن ( التكّات)  لكننا الآن نتذكر منظره بكل فخر واعتزاز.

ويمرّ في خيالي عن أيام صغري صورة أبي رحمه الله وقد أنهكه التعب فنام وهو جالس بيننا وما أن يأكل العَشاء ويصلّي العِشاء إلاّ وهو قد استلقى على فراشه استعداداً لبدء رحلة اليوم التالي في الكدّ وكسب الرزق ، وهي رحلة معاناة استمرّت مايقارب (40) عاماً ، لاتقوى الكلمات على بسطها وإيفائها شرحاً وتوضيحاً مثلما لانستطيع مهما عملنا ، ومهما بذلنا ردّ جميل وإحسان الوالد إلينا وفضله علينا ، فهو المربّي ، وهو صاحب الأيادي البيضاء والأفضال والآثار العميمة علينا ، وهو العزوة ، وهو البركة ، وما أنا إلاّ من كسبه مصداقاً لحديث سيد البشر صلىّ الله عليه وسلم : ” الولد من كسب الوالد ” .

رحم الله والدي العزيز وأسكنه فسيح جنّاته ، وأشكر كل الإخوة والزملاء والقرّاء الأعزاء الذين شملوني بتعازيهم ومواساتهم ، وأسأل المولى عز وجلّ ألاّ يريهم مكروهاً في عزيز لديهم .