راصد

تونس .. إن في ذلك لعبرة

كم كانت مؤلمة ، تلك الساعات التي قضاها الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي في الأجواء على متن طائرته يبحث عن ملاذ يلجأ إليه ، ويتوسّل أي بلد يسمح باستقباله بعد أن فرّ هارباً من دولته التي حكمها ورَأسَ سدّة هرمها لأكثر من (23) عاماً اطمئن خلالها إلى تلك الجماهير التي كانت تصطفّ لموكبه وتخرج في مناسباته وأعياده ؛ تهلّل له وتكبّر ، تزمجر وتطبّل ، ترقص بصوره ولها تغني دون أن يعلم أو يتوقع أن يوم انكشاف حقيقة هذا الولاء آتية لا محالة ، وأن هذه الصور والأغاني والمسرحيات قد دنا أجلها واقترب أوان الانتقام من ذلّ إجبارهم على التصفيق والتطبيل له ، وأن نهايتها البائسة ستكون مادة سينمائية تكرر لقطاتها وفقراتها مختلف فضائيات العالم ووسائل إعلامه .

وكم كانت مؤلمة أكثر ما أقدمت عليه فرنسا عندما رفضت استقبال حليفها وصديقها حينما قرّر الهرب ، وحينما أثنى الرئيس الأمريكي أوباما على شجاعة وكرامة الشعب التونسي . وذلك بعد ساعات قليلة على سقوط الرئيس بن علي بعدما كانت أمريكا وفرنسا نفسهما من ضمن سواعده في تثبيت ظلمه لشعبه وانتهاكه لحقوق الإنسان التونسي ووأده لحرياته الدينية والمدنية والسياسية ، وبعدما ظنّ هو أن هذه الدول من مثبتات كرسيّه وحماة عرشه فإذا به يكتشفها ركن هشّ وضعيف وغادر ، لا يقيم وزناً ولا ينتصر لبائعي أوطانهم ومرتهينها للإرادة الغربية والأمريكية بعد انتهاء دورهم ويلفظهم شعبهم .

وكم كانت مؤلمة أكثر فأكثر ، كلمات الرئيس التونسي المخلوع البالغ من العمر (74) عاماً في مساء الخميس الماضي ( قبل يوم من فراره ) عندما خرج على شعبه الذي حكمه بالحديد والنار لأكثر من عقدين من الزمان ، فيقول لهم : ” أنه سيحاسب من حجب عنه الحقائق ، ومن نقل إليه معلومات مضللة . إن الوضع يفرض تغييراً عميقاً وشاملاً ” ثم يقـول ” لقد ضللوني .. أنا فهمتكم وفهمت الجميع ” .  الآن فقط يكتشف عدم فهمه ، ويبرّر بأن الآخرين ضلّلوه ؟!

ولعلّ هذه الحالة لايحتكرها زين العابدين بن علي وحده ، وليست صناعة تونسية مبتكرة لايماثلها أحد من القادة والحكام العرب الذين الآن بعضهم في منتهى الخوف والقلق من أن تقترب ساعة الفهم ( التونسية ) عندهم لمقدار حبّ شعوبهم لهم أو أن يحين موعد تعرّفهم و( فهمهم ) لحقيقة ولاء مواطنيهم لهم على الطريقة التونسية ، خاصّة أن صناعة الولاء للحكّام في وطننا العربي لايفهمها البعض إلاّ عن طريق زيادة صورهم وتماثيلهم في الشوارع والميادين والطرقات ، ولايتجذّر هذا الحبّ والولاء عند البعض إلا بإقامة المهرجانات والاستعراضات ، ولايحسن البعض إتقانها إلا بتدبيج الأهازيج ونظم القصائد والأغاني في مدح وثناء الزعيم أو القائد .

 فالقليلون هم الذين يعرفون إن الحبّ والولاء إنما هي قيم يحفرها الحكّام في قلوب الناس وأفئدتهم بالعدل والمساواة والخوف من الله فيمن استرعاهم ولايتجرؤون على السطو على أموال وثروات شعوبهم ومقدّرات أجيالهم . القليلون من الحكّام هم الذين يعرفون أن الحبّ والولاء والالتفاف حولهم يكتسبونه من نزولهم إلى معايش الناس والاقتراب الحقيقي منهم والعمل المخلص من أجل حاضرهم ومستقبلهم ، ونظافة أياديهم من اللهو والعبث بثروات الشعوب ومدخراتها .

والقليلون هم الذين يعرفون أن أكبر من سيحميهم عندما تتهاوى عروشهم ، وتضطرب كراسيهم ، هي تلك الشعوب التي أخلصوا البذل والعطاء والإخلاص من أجلها ، ستفديهم حينئذ بأرواحها وستدافع عنهم بمهج قلوبها ، وستكّن لها عند رحيلها صادق الحب والاحترام ، وستظل بعدئذ صورها ناصعة البياض محمولة فوق الرؤوس كالتيجان ومحفوظة في القلوب كالألماس ، وستسترجع سيرها الأجيال من كتب التاريخ الخالدة وليس من سلال المهملات والقاذورات البالية .

والقليلون من الحكّام هم الذين يحرصون ويحسنون اختيار القوي والصادق والأمين لتكليفاتهم ولاستشارتهم ولإسداء النصح لهم ويبعدون عنهم الضعفاء والمرتزقة والمتمصلحين والحرامية والمنافقين قبل أن يكتشفوا فيهم ذات اكتشاف الرئيس التونسي بن علي ، فيقول عنهم بعد فوات الأوان و قبل فراره ” لقد ضلّلوني ” .

رأيان على “تونس .. إن في ذلك لعبرة

  1. مقال أكثر من رائع يبوفيصل.. لقد عبرت عن الكثير مما يختلج في النفس..
    أدام الله قلمك.

    إعجاب

  2. ما أكثر العبر و أقل الاعتبار
    هذا المصير المحتوم صائرٌ اليه كل نظام يتخذ من ظلم الناس ونهب ثروات العباد والبلاد وفرض سلطة الحكم بالنار و الحديد وبناء الامرطوريات الاقتصادية على انقاض الفقراء أساساً لتبيت عرشه ، وليتهم – الحكام – يمعنوا النظر في وقائع الحاضر و يستقرؤا حوادث الماضي ليسترشدوا الى سواء السبيل ويكفوا أيديهم عن التحكم بمصائر الشعوب و السيطرة على ثرواتهم و مقدراتهم ولكن لا حياة لمن تنادي يقول الباري عز وجل في محكم كتابه المجيد ( انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين ) فهاهو العرش الذي جثم على صدور اهل تونس لقرابة 23 عام يتهاوى أمام إرادة الشعب و أمام توقه لاسترجاع كرامته وحقوقه المضيعه – ويقول أمير الشعراء احمد شوقي ( اذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر -لافظاً هذا الكابوس الذي ما انفك يعبث في أحلامهم وتطلعاتهم الى العيش الرغيد خارج البلاد ليصبح طريداً يبحث عن مأوى يلتجئ له
    مقال جرئ ورائع سلمت يداك

    إعجاب

أضف تعليق