كان هذا الرجل عالماً ومفتياً وتقيّاً وعابداً وردت قصته في الآيات (175-177) من سورة الأعراف بالقرآن الكريم ، في قوله تعالى : ” واتلُ عليهِم نبأ الَذي آتيناهُ آياتِنا فانسلخَ منها فأَتبعهُ الشَّيطانُ فكان من الغاوِين ، ولو شئنا لَرفعناهُ بها ولَكنَّه أَخلدَ إِلَى الأَرضِ واتَّبعَ هواهُ فمَثلهُ كمثل الكلبِ إن تَحمِل عليهِ يلهث أَو تَترُكهُ يلهَث ، ذَلك مثلُ القَومِ الذينَ كذَبوا بآياتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لعلَّهم يتفَكّرونَ ، ساء مثَلاً القَومُ الَذين كَذَّبوا بآياتنا وأَنفُسَهم كانوا يظْلِمونَ ” حيث كانت تدور أحداث قصته في عهد نبي الله موسى عليه السلام وقوم إسرائيل .
وجاءت أخبار وروايات عديدة في تفاصيل هذا الانسلاخ الذي تحدث عنه القرآن الكريم في شخص هذا العالم الزاهد ( بلعام بن باعوراء ) لكنها – على تعدّدها – كادت أن تُجمع أن السبب في ذلك هو أن بداخل هذا العالِم حباً للمكانة والمنزلة ، وحبا للرئاسة والشهرة أضاع عليه علمه وأفقده تقواه وحطّ من قدره بحيث نزل فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة ..
القصة تقول أن موسى عليه السلام وقومه بني إسرائيل بعد أن أنقذهم الله من آل فرعون مرّوا وهم في طريقهم إلى فلسطين بأرض بني كنعان ، وقرروا أن يعسكروا بجانبها ، وكان هؤلاء القوم متحالفين مع آل فرعون ، فخافوا منهم ، وطلبوا من ( بلعام بن باعوراء ) – الذي كان بالرغم مما لديه من علم وآيات من الله غير معترف به عندهم ولا يلقى الاهتمام والاعتراف اللائق به – أن يدعو على موسى وقومه ، فقال : ” ويلكم هذا نبي الله ومعه الملائكة ومعه المؤمنون” فقالوا له : ” لك عندنا المنزلة والمكانة ولا نقطع أمرًا إلا بك حتى تخلصنا منهم ” فمازالوا به يمنّونه بالمكانة والمنصب حتى جلس يدعو على موسى وعلى بني إسرائيل، ولكن دون أن يحدث شيء. فقالوا له : ” ويحك، لم يحدث شيء لهم” فقال لهم : ” أما وقد خسِرت آخرتي فلن أخسر دنياي( يقصد المكانة والمنزلة ) ، سأدّلكم على حيلة ومكر تمكروه بموسى ومن معه من بني إسرائيل يخلصكم منهم : آتوا بنساء القبيلة فجمّلوهن وأعطوهن بضائع يبيعونها لبني إسرائيل ومُرُوا النساء ألا يمنعن أنفسهن عن أي رجل من بني إسرائيل ، ففعلوا ذلك فانتشروا بين بني إسرائيل، فعلم موسى بهذا المكر الذي مكره ( بلعام ) فدعا عليه فعاش عمره وطال وهو مكتوم.
غير أن ورود قصّته في القرآن الكريم ليست من باب الترف أو التأريخ فقط وإنما هي – كما القصص القرآني كلّه – تحمل الكثير من العبِر والدلالات التي تستحق أو تستوجب أن تكون ماثلة أمام العلماء والمشايخ في كلّ مكان وزمان خاصة عندما يكونون هدفاً للترغيب والإغراء فيتخلّوا بكلّ يسر وسهولة عن ثابت مبادئهم ويتحوّلوا عن صمود مواقفهم وينزلوا لأجل مالٍ أو جاهٍ أو منصب عن علوّ هامتهم ورفعة قامتهم .
وليس بالضرورة أن يكون ( بلعام بن باعوراء ) في زماننا ، عالم دين ؛ رغم أهمية وضرورة أن يبقى علماء الدين في مراتب عليا محفوظة من دواعي الزلل أو الخطل ، لكن قد يظهر علينا ( بلعام ) في أزياء وأشكال ومناصب وشخصيات عامة أخرى ، كثيرة ، تسلّلت إليهم أمراض الشهرة والجاه والمال وحبّ الرئاسة والصدارة فانحازوا لأن يسكنوا – مثلاً – في ( حارة النّعل ) أو أن يكونوا زبائن في أسواق بيع الضمائر والذمم ، فخسروا آخرتهم وأضاعوا دنياهم واغتربوا مع أنفسهم . وإن ظنّوا غير ذلك ؛ فهو ظنّ إلى حين ، سرعان ماسيتبدّد .