صحيح أن الحركة المطلبية الجديدة التي بدأت في 14 فبراير الماضي ولازالت مستمرة ترفع شعاراً لها بأن اعتصاماتها ومسيراتها سلمية ، وتردد ذلك في سائر بياناتها والأدبيات الصادرة عنها ؛ لكن بعد مضي حوالي شهر واحد من انطلاقتها يحق للجميع التساؤل عن هذه السلمية التي ينبغي أن نناقشها بهدوء ، ودون توترات واتهامات طائفية صارت جاهزة للتوزيع .
وأخشى أن أقول أن هؤلاء المعتصمين والمتظاهرين قد قصروا مفهومهم للـ ( السلمية ) في مجرّد عدم حرق الإطارات أو براميل القمامة أو مولدات الكهرباء أو ماشابهها من أعمال كانت – للأسف الشديد – تصاحب تحرّكاتهم في السابق . غير أن ( السلمية ) هي أوسع من ذلك بكثير ، وتمتد في مدلولاتها لتشمل سائر عناصر الأمن والسلم في المجتمع التي نعتقد أنه تم المساس بها والتعدّي عليها ويجري تهديدها بشكل فجّ خلال هذه الأحداث التي تمرّ بوطننا الغالي دونما اعتبار أو مراجعة لهذه ( السلمية ) التي يدّعونها .
فإضراب المعلمين وتحشيد الطلبة وتسييرهم في مظاهرات وإعاقة الدراسة أو وقفها وتعطيلها في بعض المدارس وما نشأ عنها من شحن طائفي وتجييش لمشاعر بغض أو كره بين الطلبة أدت إلى مشاجرات – إذا خففنا التعبير عنها – جعلت الخوف من المجهول وقلق الليل والنهار عند الطلبة وأولياء أمورهم هو سيد الموقف . وبالتأكيد ماحدث في مدارس العهد الزاهر ويثرب ونسيبة بنت كعب وسار ومركز التحفيظ بجامع أبي بكر الصديق وغيرهم لا يستقيم إطلاقاً مع ( السلمية ) المزعومة .
ثم احتلال موقف السيارات في مجمع السلمانية الطبي و( مفاقمة ) أزمة المواقف الموجودة أصلاً ، وتفتيش الداخلين وتوقيفهم ، ثم ممارسة عملية تقديم الرعاية والإسعاف والعلاج الطبي على أساس طائفي وتزايد الأخبار عن حالات تضييق وإقصاء للأطباء والعاملين بصورة دفعت الكثير من المواطنين إلى طلب العلاج في المستشفيات الخاصة واضطرتهم للتخلي عن العلاج المجاني والصرف من أموالهم رغم ضيق ذات اليد بصورة لا يمكن الاقتناع معها بـ ( السلمية ) لهذه الاعتصامات والتظاهرات .
أيضاً زيادة الازدحامات في الشوارع ( المكتظة أصلا بالزحمة ) واعتراض السيارات وإيقافها وسؤال سائقيها : هل أنت سنّي أو شيعي ؟ خاصة إذا كان يلصق على سيارته صوراً لرموز الحكم والنظام ، وبالتالي امتناع الكثير من المواطنين من ارتياد شوارع بعينها خوفاً من عواقب مثل هذا السؤال وما يمثله من تهديد لشعار ( سلمية ) الاحتجاجات والمطالبات .
ثم تسيير مظاهرات أو تجمعات في مناطق يسكنها أو يستخدمها مواطنون من الطائفة الثانية ، أهل السنّة والجماعة تتعطل بسببها مصالحهم وتحركاتهم وتشكّل في أقلّ التقديرات استفزازاً لهم مثلما لم يتم مراعاتهم حينما تم تعطيل الدراسة بحقّ أبنائهم وكذلك منع تقديم العلاج لهم في السلمانية بالإضافة إلى ماتبثّه القنوات الفضائية من تحريض وتحشيد لا يمكن الاطمئنان إزائه إلى القول بـ ( السلمية ) .
أما في المجال الاقتصادي ؛ فحدّث ولا حرج ، آهات وصرخات كبار التجار تملأ الفضاء ، تشكو وقف تجارتهم وتضاعف خسارتهم وتهديد بقائهم في السوق ، وبالطبع لاتسألوا عن صغار التجار وأصحاب المشاريع والمؤسسات الصغيرة فهم في حال سيئة ويتكلّمون حتى مع ( الحيطان ) حنقاً وغضباً على هذه الـ ( السلمية ) ناهيك عن مشكلة القيام بإغلاق بعض المحلات التجارية بالقوة .
لا أريد الاسترسال في ذكر الأمثلة أو المجالات أو ردود الفعل والأسباب والاتهامات المتبادلة التي تثبت بدون شك عدم تحقق شعار سلمية الاعتصامات والمسيرات ، لا أريد الإسهاب في ذلك لكن المؤكد لدينا حالياً أن جزءاً ليس صغيراً من الأمان والسلام قد فقدناه وأن هنالك حاجة ماسّة لإعادته أو احتواء الشقوق التي خلّفتها هذه الاعتصامات والمسيرات ونتائجها وآثارها على السلم الأهلي والاجتماعي قبل أن يتّسع الخرق على الراتق ، ولن ينفع حينها ( التلاوم ) وتوجيه أصابع الاتهام لفئة دون أخرى .
سانحة :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ” من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا “