قبل حوالي ثلاثة أعوام ، أقل أو أكثر ، انتشرت – أو نُشِرت – ثقافة مجتمعية مفادها ضرورة أن يبقى المواطن مستقلاً ، بعيداً عن أي انتماء ، لاعلاقة له بمؤسسات المجتمع المدني ، وأن للانتماء مثالب ونتائج سيئة تعود بالسلب على الفرد وتحركاته وتحدّ من حريته ونشاطه . وكانت هذه الحملة المفتعلة تزداد كثافتها وأحياناً ضراوتها كلما اقترب موعد الاستحقاق الانتخابي بصورة كانت تنبيء آنذاك بأن المقصود ليس الفكرة ذاتها بقدر ما هو محاربة توجهات وجمعيات قائمة يُراد إقصاؤها من المشهد الانتخابي .
وفي سبيل ذلك تخصصت كتابات وتصريحات ، وتم أيضاً تنظيم محاضرات وندوات كانت تشرح إلى حدّ ( التكلّف ) أو ( التعسّف ) في إظهار مساويء الانتماء والعمل تحت مظلة الجمعيات والوقوع تحت أسْر أفكارها أو مصالحها أو وفق أجندات خاصة بها لاتصلح لخدمة الوطن وإنما تكون موجهة لفئات ومصالح معينة بينما الاستقلالية تمنح فضاء أوسع وقدرات أكبر وإمكانات أفضل و … إلخ .
إبّان تلك الحملة الضارية ضد الانتماء والعمل من خلال مؤسسات المجتمع المدني التقيت بأحد العاملين المتحمّسين لفكرة الاستقلالية ، تناقشت معه ، حاولت أن أبين له أن طاقات الناس ، خاصة الشباب منهم ؛ الأولى لها أن يتم استغلالها وترشيدها من خلال عمل جماعي وإطار منظم ، يدعمها ويقوّيها ، يضبط مسارها ويقوّمها . وبذلت ما في وسعي للإيضاح له أن العمل في جمعيات ونقابات واتحادات يحظى برعاية وتشجيع في مختلف أنحاء العالم وتكتسب هذه المؤسسات منازل متقدمة صارت مؤسسات البحوث والدراسات ومراكز اتخاذ القرار تحسب لها ألف حساب وتستشرف آراءها وتتوقف عند مطالباتها وتوصياتها . صاحبي ، لم تكن لديه رؤية للمنظور البعيد ، كان يرى مجرّد ما تحت قدميه ، وكان يبدو أن انتقاداته أو خلافاته وعداواته أو ملاحظاته على بعض الجمعيات القائمة حوّلته إلى خانة ( المنظّرين ) لمفهوم الاستقلالية في الطرح والانتماء والعمل .
هدأت هذه الحملة بعد الانتخابات ، ثم جرت في النهر مياهاً ، ارتفع منسوبها وكادت أن تصيب البلد بكارثة بعد الأحداث المؤسفة التي عشناها خلال الأشهر القليلة الماضية ، اكتشفنا ضمن الصدمات الكثيرة التي هزّتنا أن معظم مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة كانت مختطفة لصالح آخرين وأن غالبها تشهد غياباً كبيراً لمكوّن رئيسي في المجتمع ، وأنه بسبب هذا الغياب تم تجييرها – تلك المؤسسات – لأجل تنفيذ تلك الكارثة وتحقيق أجندتها ، وأن اتحادات ونقابات وجمعيات ليس لنا دور فيها ساهمت في العصيان والإضرابات والمسيرات وكادت أن تشلّ البلد ، بل إن أنشطة إعلامية وحقوقية ترسخت وتغوّلت من خلال تلك المؤسسات التي تغيبنا عنها تم استغلالها في الداخل والخارج أيما استغلال جعلتنا في موقف النادمين و( المتحسفين ) على انكفائنا وانعزالنا وابتعادنا عنها طيلة السنوات الماضية .
صاحبي أيام الانتخابات السابقة عاد الآن ، انقلب تماماً وأخذ يدعو ويحشد لأهمية الانضمام إلى الجمعيات والنقابات والاتحادات وغيرها وألا نترك الساحة خالية للآخرين ، وما شابه ذلك من دعوات موجودة الآن ، نقرأها ونسمعها ، لاتخفى على أحد بعدما بانت لحظة الحقيقة وظهرت ساعة الحاجة .
قبل بضعة أسابيع ، إبّان الأزمة الأخيرة ؛ استمعت لمداخلة عصماء ألقاها صاحبي نفسه ، طالب خلالها بإنشاء عدة جمعيات وتجمعات ، سياسية واجتماعية ومهنية ( وما شاء الله ) وأن يتم الدفع لإنشاء نقابات وجمعيات حقوقية وأن يمتد نشاطهم حتى للانضمام لمنظمات خارج البحرين ( سبحان الله مغيّر الأحوال ) . بعد انتهائه من مداخلته ؛ باغتّه وذكّرته بمناقشاته معي وبما كان يشيعه في مثل هذا الوقت من العام الماضي ويتحرك لأجله عن مفهوم الاستقلالية والبعد عن الجمعيات وسالفة الانتماءات .. كان جوابه : الله يغفر لي .
سانحة :
هنـالك مقولة جميلة للشـاعر الانجليـزي فريـدريـك لينغبرج ، حيث يقـول : ” نظر شخصان عبر نافذة واحدة ، أحدهما رأى الوحل والآخر شاهد النجوم “.