راصد

أرض النفاق

تُعدّ رواية ( أرض النفاق ) للكاتب المصري يوسف السباعي الذي عاش خلال الفترة من (1917ـ 1978م) ، من أشهر أعماله الروائية ، وكتبها عام 1949 ؛ حيث تناول فيها الكاتب أعقد المشكلات الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي آنذاك ، ولازالت ، ألاَ وهي مشكلة النفاق ، التي انصبَّ اهتمام الكاتب على تسليط الضوء عليها باعتبارها ظاهرة خطيرة ضاربة في نفسية وعقلية الإنسان العربي ، وعزا إليها  أسباب ضياع الأخلاق وتدهور القيم في المجتمعات .

وتتكون الرواية من (16) فصلاً يتناول كل فصل قضية لها علاقة بالنفاق أو دواعيه وتوابعه . لعل الفصل الأول هو من أجملها حيث حمل عنوان : تاجر أخلاق   .. النزاهة والعفة والمروءة والتضحية !!  وجاء فيه : أوَ تظن أن هذا هو ما يدفع بالمرء إلى مرتبة الزعماء في هذا الزمن ؟هل تظن أن زعماء هذا الزمن يجب أن تتوافر فيهم هذه المزايا والأخلاق ؟!
        وأبرز ما كان في  هذا الفصل الذي أظهر فيه استغرابه الشديد من متجر بيع الأخلاق : هذا رجل مجنون ولا شك ، فما خطر ببالي قط قبل أن أرى في اللافتة أن الأخلاق بضاعة يمكن الاتجار فيها ، أم ترى الرجل نصابا محتالا ، وأن الاتجار بالأخلاق قد أضحى نوعا جديدا من الدجل وطريقة مبتكرة للضحك على السذج والبسطاء ؟ وبعد التحقق من التاجر ومن بضاعته المعروضة سأله هذا السؤال المنطقي : يا حاج ، لقد ضيعت عمرك سدى ، إذا كان الأمر كما تقول ، وليس على الإنسان لكي يصبح على هذا الخلق إلا أن يتناول جرعة من كل شوال ، فلماذا لا تأخذ لنفسك جرعة ، تدفع بك بين عظماء القوم وتكفيك مشقة الجلوس بين الأكياس في هذه الوحدة المضنية ؟ وكان الجواب من الحاج : أوَ تظن أنني حتى الآن لم آخذ منها ؟ أوَ تظن أنني ما زلت في انتظار نصيحتك ؟ لقد تناولتُ من كل هذه البضاعة التي حولك ،  الشجاعة والعفة والمروءة والتضحية .. إلخ . تناولت من كل هذا الذي تراه ، ويا لخيبة الأمل ، لقد كنت مثلك حسن الظن ، سليم النية ؛ فأقبلت عليها بنهم وشره . كنت أظن أنها تدفع بالإنسان إلى مصاف عظماء الرجال ، ولكن نهمي قد طاش وفألي قد خاب .

النزاهة والعفة والمروءة والتضحية ؛ أوَ تظن أن هذا هو ما يدفع بالمرء إلى مرتبة الزعماء في هذا الزمن ؟  هل تظن أن زعماء هذا الزمن يجب أن تتوافر فيهم هذه المزايا والأخلاق ؟ أنت أبله يا سيدي .. أترى لو كان في ذلك شيء من الصحة ، أكنتَ ترى هذه البضاعة مكدسة على الرفوف في أكياسها لا يقرّبها إنسان ؟  هذه بضاعة لا يحتاج إليها المرء في هذه الأيام ، لقد أصبحت عتيقة بالية .. لقد أضحت “مودة قديمة” ، لا تلائم نفوس هذه الأجيال ولا تصلح لزعمائهم ولا يقبل عليها إلا كل مجنون فقد عقله . لقد تناولتُ جرعة من كل ما ترى ، وحاولت أن أخوض معركة الحياة مسلحا بتلك الأخلاق فانتهى بي الأمر إلى أن أتهم بالجنون ، وهزمتُ في دنيا اللئام شر هزيمة ، وعدتُ إلى حانوتي ملوما محسورا.
        وسأله لِمَ لا يجرب بيع بضـاعة أخرى كالنفاق والجبن والمكر والرياء والخسة ؛ بدلا من هذه البضاعة الكاسدة البائرة ، فكان جوابه : أنَّى لي أن أحصل عليها يا سيدي ، وقد استنفدها الناس جميعها ؟  سألتُ عنها صاحب الحانوت الأول فقال : إنه لم يبق منها ذرة واحدة وأنبأني أن لذلك قصة قديمة ، فقد كان الحانوت عندما أنشئ أول مرة في سالف الزمن يكتظ بكل أنواع البضاعة ، وأقبل الناس يتزاحمون وكلهم يطلب النوع الآخر ؛ الجُبن والنفاق والمكر والرياء والخسة . واشتد تزاحمهم على الحانوت يتدافعون بالمناكب الأيدي ، وكان أكثر البضائع رواجا هو النفاق، كانوا كلهم يطلبون النفاق .. النفاق .. النفاق … وانتهى بهم الأمر إلى أن يقذفوا بكمية النفاق المتبقية في النهر ؛ فيلوثوا بها المياه ، وبذلك يحصل كل إنسان على شيء من النفاق ، مهما قلّ فهو خير من لا شيء . وهكذا جرت مياههم بالنفاق ، وسرى منها إلى كل شيء .. سرى في النفوس التي لا غنى لأجسامها عن شرب مياه النفاق، وهكذا سرى النفاق في كل ما يشربون وما يأكلون .

ويقول الكاتب  السباعي في خاتمة روايته : ” هي صيحة خالصة منطلقة من أعماق صدري ، فاعذروني إذا ما ختمتها عند هذا الحد ، واعذروني إذا ما ادعيت أنها حقيقة واقعة ، وأن خاتمتها أمانة تجيش في صدري : يا أهل النفاق تلك هي أرضكم ، وذلك هو غرسكم ، ما فعلت سوى أن طفت بها وعرضت على سبيل العينة بعض ما بها ، فإن رأيتموه قبيحا مشوها ، فلا تلوموني ، بل لوموا أنفسكم . لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة ..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s