فيما مضى من الزمان ، كان للعرب عادات غريبة ، أنشأتها الحاجة أو تطوّر حياتهم أو ربما الصدفة ، ثم مضت عرفاً لديهم واستمروا عليها حتى بعد اكتشافهم خطأ مسارها أو سوء استغلالها ، إلى أن ثار على مثل تلك الأعراف الأسوياء الذين أرادوا احترام العقول وإنزال تلك الأعراف والعادات مكانتها الصحيحة في وعي الناس وتفكيرهم الجمعي .
من تلك العادات – مثلاً- استدعاء امرأة في مناسبات أو مآتم العزاء ، يكون عملها فقط النياحة ، أي البكاء و( التولول ) وتهييج الأحزان ، بأن تعدد مناقب الفقيد وتذكر مآثره وتندب فقده ، وتُسقط من الدموع غزيرها لتضفي جواً من الحزن والأسى ، ثم تأخذ على ذلك مالاً .
النائحة المستأجرة هو اللقب الذي تُسمى به النساء العاملات في هذا المجال ، مجال سكب دموع ( العيارة ) والتكسّب في أحوال الحزن . وذلك على عكس النائحة الثكلى التي يموت لها عزيز فيكون بكاؤها حقيقياً صادقاً ودموعها ساخنة فيها مرارة الحزن والحسرة . ولذلك نشأ عند العرب في أمثالهم ” ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة ” حيث عبّر عن هذه الوظيفة القبيحة الشاعر مالك بن الريب في مرثيته الرائعة ، عندما قال :
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا
ولذلك أصبحت النائحة المستأجرة مهنة لها أصولها ، وحرفة ذات اشتراطات ، يزيد ثمنها وينقص بحسب ( النياحة ) المقدمة وقدرها ومدى تأثيرها . ولأن سنّة الحياة التطوير فقد تعدّدت أوجه هذه الوظيفة في وقتنا الحاضر، وتنوّعت استخداماتها ، وزادت متطلباتها وتضاعفت أسعارها حتى دخل على (خطها ) أصحاب مهن أخرى رأوا فيها مرعى خصباً يمكنهم أن ينهلوا منه طالما أنهم يستطيعون القيام بتمثيل أدوار متعددة ومتناقضة ، نظيفة أو قذرة ، صادقة أو كاذبة ، كلّ ذلك غير مهم بالنسبة لهم مادام أن البوصلة هي الدينار أو الدولار .
الأزمة المؤسفة التي مرّت بها بلادي مثلما كشفت وعرّت في فترتها القصيرة أشياء وشخصيات كثيرة ؛ أيضاً أعادت الحياة إلى هذه الوظيفة ( النائحة المستأجرة ) وأظهرت لنا بعض شخصيات صارت تبكي على الوطن وامتهنت النياحة عليه في وسائل الإعلام والتواصل المختلفة حتى أنه عجبتها الوظيفة و( صدّقت روحها ) و(عاشت الدور) بالرغم من معرفة الجميع بأن هذا البكاء والنياح إنما هو مدفوع الأجر ، وأن القائمين عليه هم نائحات مستأجرات لا يملكون حباً للوطن وإخلاصاً له إلاّ بقدر الأجر الذي يتحصّلون عليه . وكلّنا يذكر أحد المذيعين المشهورين في إحدى دول الربيع العربي ، حيث كان يمجّد في الرئيس ويمدحه حتى كاد أن يصفّه مع الأنبياء . فلمّا سقط الرئيس قام هذا المذيع يسبّ ويشتم الرئيس المخلوع ويقول له ” يخرب بيتك ” !
الدولة تحتاج إلى النائحات الثكلى وليس النائحات المستأجرات ، لأن الإخلاص في النصح والصدق في الرأي منجاة نحتاج إليها في حال اليسر والعسر.
سانحة :
نُقل عن بعض السلف الصالح أنه كان إذا وعظ أبكى الناس حتى تختلط الأصوات ويعلوا النحيب وقد يتكلم فى المجلس من هو أغزر منه علما وأجود منه عبارة فلا تتحرك القلوب ولا يبكى أحد فسأله ابنه ذات يوم عن هذا ؟؟ فقال : يابني لاتستوى النائحة الثكلى بالنائحة المستأجرة ،إن الكلمة يابنى إذا خرجت من القلب وقعت فى القلب وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الاذان !