نافذة الجمعة

النسر الذي أصبح دجاجة

يحكى أنه كان هناك نسر يعيش على ذروة أحد الجبال، ويسكن مع رفيقته في عش جميل بناه على قمة ذلك الجبل، ومضت الأيام، ووضعت زوجته بعض البيض الذي عما قريب سيفقس ليخرج منه سرب من النسور الصغيرة، لكن الرياح لا تأتي دائمًا بما تشتهي السفن، إذ هزّ زلزال عنيف الأرض من تحت ذلك الجبل، فسقط العش بما فيه فتحطم البيض عن آخره، سوى بيضة واحدة أخذت تتدحرج رويدًا رويدًا فالتفّت حولها بعض الأعشاب حمتها من التحطم، حتى استقرت أخيرًا على تلك الأرض المخضرة الموجودة حول ذلك الجبل. وكان يعيش في تلك الأرض مجموعة من الدجاج المسالم، يشرب من مائها، ويتغذى على نباتها، ثم يأوي إلى عشه آخر النهار لينام، فبينما الدجاج يرعى في تلك الأرض إذ رأى تلك البيضة الكبيرة التي سقطت من عش النسر، وعلى الفور أدرك الدجاج بفطرته، أن تلك البيضة لا تخصه، فهي لا تشبه أبدًا بيضة الدجاجة، ومع ذلك فقد قرر أن يرعى هذه البيضة حتى تنتهي فترة حضانتها، وبالفعل تطوعت دجاجة كبيرة أن ترقد على  البيضة حتى تفقس، ويخرج منها جنينها سالمًا.

بعد مدة فقست البيضة، وخرج منها نسر صغير جميل، تربى هذا النسر مع الدجاج ونشأ كما ينشأ، فجعل يعيش كما يعيش الدجاج، حتى استقر في نفسه بل وفي نفوس من حوله أنه فعلاً دجاجة بكل ضعفها وعجزها وسلبيتها، ومضت الأيام على ذلك النسر الداجن، وهو يعيش في سلبية وخنوع، تاركا للظروف والآخرين مهمة تنظيم حياته، دون أن يكون له رأي أو فعل إيجابي فيها.

وذات مرة رأى هذا النسر سربًا من النسور، يحلق عاليًا، فلاحظ بعض الشبه بينه وبين تلك النسور، فتمنى لو يحلق كما تحلق،  تمنى أن يكون نسرًا إيجابيًا فاعلا، بدلا من أن يكون دجاجة مسلوبة الفعل والإرادة، وجعل يحرك جناحيه محاولا التحليق، ولكن ضعف جناحيه من طول حياة الكسل والخمول حال دون نجاحه، إضافة إلى ضحكات السخرية والاستهزاء، التي انطلقت مدوية من حلوق الدجاج، تريد أن تقول له: ماذا تظن نفسك تفعل؟ هل تحاول الطيران مثل النسور؟ أيها المسكين، أنت لست سوى دجاجة، تربيت وعشت كدجاجة، فلن تستطيع أبدًا مهما حاولت أن تحلق عاليًا مثل النسور، وهنا تحطمت تلك البقية الباقية، من إرادة ذلك النسر الداجن، وبلغ منه اليأس والإحباط مبلغًا عظيمًا، فقرر أن يستسلم لواقعه المرير، وأن يقنع بعيشة الدجاج بكل ما فيها من سلبية وفشل وخمول وكسل.

هذه الحكاية بتفاصيلها ومعانيها ربما تصلح لأن نرجع لها لتفسير أحوال أناس يُفترض أنهم اليوم في الصفوف الأولى للدفاع عن إسلام وعروبة الأمة ومقدّساتها ، وأنهم أهل جهاد يرون فيه منطلقاً لتحرير الأراضي المغتصبة في فلسطين ويعتقدون أن جهادهم هو ذروة سنام الإسلام ، ويدركون أن عقيدة المؤمنين القتالية لاتضع بالاً للعدد والعتاد أو القلّة والأكثرية .

لا أعني هنا فقط زعماء وقادة جيوش ، وإنما أيضاً علماء وطلبة علم يُفترض  أنهم في طلائع المقاومة والذود عن حمى الإسلام ومقدساته ، والدفاع عن حياض الأوطان وأرواح المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، للأسف تغيّرت مواقفهم أو غابت عنهم علومهم فتحوّلت ممارساتهم وفتاويهم وآرائهم إلى خنوع لحياة الذل والمهانة ، وتركوا الثغور والخنادق ، ونسوا الجهاد والرباط وفضلوا العيش – كما صاحبنا النسر المدجن – في المزارع والحقول ، يرون القتلة والطغاة والمجرمين والجزارين ومصاصي الدماء يعملون قتلاً وذبحاً في إخوانهم وأهلهم فلاتتقطّب حتى جباههم ولاتتمعّر وجوههم ، وهؤلاء لايكتفون بصمتهم وخذلانهم ، وإنما قد يخرجون علينا – وهم جالسين في مزارعهم أو فللهم وتحت مكيفاتهم وعلى أريكتهم أو في سياراتهم الفارهة –  بآراء غريبة تخطّأ النسور وتحبّطهم في رباطهم وجهادهم وتدعوهم لأن يكونوا مثلهم ؛ نسوراً داجنة .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s