ربما لأن الشأن السياسي والقضايا الأمنية أو الاقتصادية قد استحوذت على لبّ الاهتمام . وربما أيضاً أن استراتيجياتنا – إن وُجدت – تعتمد على ردّات الفعل وترقيع الخروق ولاتأخذ بالمبادرات ولا تمسك بالزمام وليس في وارد اهتمامها أن تكون في مركز صناعة الفعل وتوجيهه . وربما – أيضاً – أن مراكز اتخاذ القرار عندنا لاتعتمد على الدراسات والبحوث وليس لدى صناع القرار من المستشارين والبطانة إلا مايقوم في الغالب على التمصلح أو النصح غير المخلص أو النفاق أو ( كل شي تمام ) . وربما – أيضاً – لأننا بسبب ظروف الحياة قد انصبّ جلّ تركيزنا على تدبير أمور معيشتنا وتسوية مصاعبها ، فيُصار بسبب كل ذلك أن تُسرق الأضواء والاهتمام عن مشكلة يغصّ بها واقعنا ، بل واقع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية كلها ، وتهدد وجودها ومستقبلها من دون أن تنبري أصوات مخلصة تدق ناقوس الخطر وتنهض للقضاء على هذه المشكلة .
إنها مشكلة الهوية العربية والإسلامية التي ليس إصرار إيران على حذف كلمة ( العربي ) من الخليج أو استبدالها بالخليج الفارسي إلاّ صورة بسيطة لهذا الخطر ، ومن السذاجة بمكان قصر مشكلة الهوية في المسميات بينما الخطر قد تضاعف وتجاسر فأخذ مكانه في الفكر والوعي الجمعي ورزح عندنا في غفلة من الزمن بكل رضا وهدوء.
فإن جئنا إلى اللغة العربية ؛ فبالرغم من أنها اللغة الرسمية والوطنية إلاّ أن سوء الاهتمام بها جعلها تتراجع إلى المرتبة الثانية أو الثالثة ، وصار التحدث بغيرها مفخرة وعلامة رقي وتقدّم خاصة عند علية القوم وأبناء ( الذوات ) ، وتبعاً لعليتهم و( ذواتهم ) فإن مناصب ومراكز إدارة الدولة تكون غالبها منهم ، وبالتالي لا تكون اللغة العربية في وارد الاهتمام بإحيائها أو المحافظة عليها . ويحدث ذلك بالرغم أن الجميع – كبراء القوم وصغارهم – يلمسون ويشاهدون بكل وضوح في الدول الأجنبية ، خاصة الكبرى أو المتقدمة منها ، سواء في الغرب أو في الشرق ، مقدار تمسكهم بلغتهم الوطنية وحرصهم على الظهور بها في شتى مناسباتهم وممارساتهم لشؤون حياتهم ومهامهم الرسمية وغير الرسمية ، لا يتكلمون إلاّ بها ، ولا يتعلّمون إلاّ بواسطتها ، ولا يعلنون إلاّ بمفرداتها ، يتفاخرون بها ويُعلون من شأنها ولايرضون أن تنازعها في المقام والمكانة أية لغة أخرى . كتبهم ، مناهجهم ، تدريسهم ، استماراتهم ، إعلاناتهم و” يافطاتهم ” تنبيهاتهم ، أرقام لوحات سياراتهم ، … كل شيء عندهم لايمكن أن تنفكّ صلته بلغتهم الرسمية والوطنية . وأذكر أنه في إحدى زياراتنا التدريبية لجمهورية ألمانيا ؛ تحدّث فينا أحد المسؤولين بلغتهم الألمانية ، وقبل بداية محاضرته قيل له إن تكلمت بالانجليزية فنحن نعرفها ولا نحتاج إلى مترجم ، لكنه رفض هذا الطلب وأصرّ على التحدّث باللغة الألمانية رغم معرفته للانجليزية ، ليس لشيء سوى الاعتزاز بلغته وتعظيم انتمائه لها ، وذلك على خلاف تعاملنا في الداخل والخارج مع لغتنا العربية المتروكة – للأسف الشديد – نهشاً للخراب والضعف حتى صدق عليها قول شاعر النيل حافظ إبراهيم :
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لُعَابُ الأفاعي في مسيل فرات