كنا – وكان غيري كثيرين – ومازلنا نظن أن الأحداث المؤسفة التي مرّت على وطننا العزيز قد غيّرت فكر وتوجهات الناس وبدّلت وعيهم وأعادت ترتيب اهتماماتهم وأولوياتهم وغرست فيهم مفاهيم حب الوطن والخوف عليه وعلى مستقبله ، وأكبرت عندهم مسألة الانتماء له والدفاع عنه والمحافظة على هويته ومقدّراته ومكتسباته ، ورفعت – بالذات عند أهل السنة والجماعة – شعورهم بأنهم جزء أصيل ورئيس في هذا البلد ، وألزمتهم تلك الأحداث أن ينفضوا عنهم غبار التهميش وأن يزيلوا عنهم دواعي الفرقة والتشتت ، وأن تتوحد صفوفهم ورؤيتهم .
إبّان تلك الأحداث تأسف كثيرون على تضييعهم فرص رصّ الصفوف وتقوية الجموع وتحسّر مثلهم على استغلالهم وتوظيفهم – بقصد أو دون قصد – في عمليات دنيئة وحملات لاتنقصها القذارة أسهمت في صناعة شروخ وزيادة شتات في صفوف أهل السنة والجماعة . وكنّا نظن أو أعتقدنا جازمين أن تلك الأحداث المؤلمة والمفزعة قد نبّهت الغافلين وأيقظت النائمين وصدمت المترددين وصحّت ضمائر حتى الذين كانوا معروفين في دنيا الناس بـ ( الحصّالات ) الذين كانوا يتحرّكون تخريباً وتفريقاً وتأليباً في صفوفنا .
كنا نظن – وكان غيري كثيرين – ومازلنا أن أصابع الندم قد أشبعها الجميع عضّاً على سنوات وعقود فرطوا في بناء أنفسهم وقدراتهم وإمكانياتهم حتى وجدوا أنفسهم غائبين أو متخلفين عن ركوب موجات ومجالات هامة وحساسة سبقهم غيرهم إليها ، وقد عقدوا العزم على توديعها والتخلّص منها إلى غير رجعة ، وارتداء أثواب جديدة قوامها الحب والود وقياساتها على قدر الأخطار المحدقة وهامتها نحو التطلعات المشتركة.
لم يكن ذلك مجرّد ظن ، إنما ساعد على تيقنه تلك الجموع الحاشدة التي جاوزت مئات الآلاف ذهبت حينذاك إلى الفاتح كهدير الماء وكان لها صوت واحد كزئير الأسد حتى قالوا عنه أنه المارد الذي خرج من قمقمه ، عدّل أو قلب الموازين محلياً وإقليمياً ودولياً . وأشاع هذا المارد شعوراً غامراً بالارتياح والاطمئنان أن أهل السنة والجماعة بخير ، وأن أي محاولات لاختطاف البلد من هنا أو هناك لها من يرفضها ويجابهها ويقف ضد أطماعها .
وبينما كان الإحساس بالفخر ووحدة الصف وتغير الوعي وارتقاء الاهتمام والقفز على الخلافات و( التوافه ) والصغائر وما رافق ذلك من مشاعر وأحاسيس لايستطيع أحد أن ينكر حجم الارتياح النفسي الذي أحدثته آنذاك ، وأكرر آنذاك ، عند تلك الأحداث ؛ جرت في النهر مياه عديدة ، بعضها آسنة ، لم نعرف أو يتحدد نقطة تسرّبها ، لكنها فعلت أفعالاً في وحدتنا ، كانت كما مرض هشاشة العظام ، الذي لايترك عظم إلاّ وجعله ضعيف الجدوى لايستطيع الوقوف حتى وإن بقي أمام العيان أنه ( عظم ) .
بدأ هذا المارد – لا أعني هنا التجمع فقط وإنما كل المكونات والجمعيات التي مثلها الفاتح – الذي استبشرنا بخروجه يتآكل شيئاً فشيئاً ، وصار الألم والحزن ينتابنا ويقضّ علينا مضاجعنا لحالته المرضية التي تزداد سوءاً ، ورأينا كيف أن مباضع الجراحين لم تستطع وقف نزيفه أو لملمة جراحاته حتى غدا أو عادت – أو كادت – صفوفنا إلى سيء حالها ، واشتغلت علينا حليمة بذات عادتها القديمة . أصناف وأنواع من البشر ، بعضها متحامل بالحقد والضغينة وبعضها مسكون بالغباء والجهل وقصر النظر وبعضها معروف بالسفاهة والبذاءة وبعضها مدفوع بالمال والأجر ، كلها أصبحت تأكل بعضها بعض وتضرب أسافين هدم وتفرقة وإضعاف وربما ذبح للأمل الذي تعلّقنا به لبضعة شهور . يا أسفاً عليه .
سانحة :
مثل شعبي مصري مشهور يقول ” اتلم المتعوس على خايب الرجا ” ومعناه اجتماع شخصين لهما نفس الطباع والأفكار ، واحد فاشل والآخر أكثر منه فشلا .