غالب ما ستقرأونه في عمودي اليوم ، سبق لي كتابته ، بعضه سُمح بنشره ، وبعضه – ربما الأكثر – لم يُنشر ؛ لكنني لا أستطيع إلاّ أن أكرره ، إبراء للذمة أمام الله وإرضاء للضمير لأن البعض ينسى أنه في خضم الأحداث المؤسفة التي شهدها الوطن قبل أكثر من عامين من الآن قد وضعنا أيدينا على قلوبنا خوفاً على هوية البحرين وانتمائها ، بل كادت العيون أن تذرف غزير دمعها ، وكانت أصابع الندم يجري عضّها تحسّراً على سنوات وعقود من الغفلة والإهمال عن ترسيخ معانٍ حقيقية للانتماء وصوْن ثمين لثقافتنا وهويتنا وزرع مثمر في أجيالنا عن تاريخ وعروبة وهوية لاتسمح بالمساس أو التعريض بها أو إهدار المحافظة عليها.
أبدى الكثيرون آنذاك غضبهم من الأموال التي كانت تُصرف لإجبارنا على قبول منحى غريب للثقافة ومفهومها ، مفهوم لايقوم على أساس بيان مقدّرات العروبة والإسلام ، ولا يخضع لاعتبارات الهوية والانتماء ، ضاعت فيه القيم وتلاشى منه الفكر وغابت عنه المعلومات وتراجع عنه الأدب ، وأصبح ( مسْخاً ) ليس له من الثقافة سوى الاسم ؛ فهو في ظاهره رقص وطرب وسيمفونيات من الشرق و الغرب أو الشمال والجنوب ، ولكن في باطنه تغريب وتفريط وتمييع وتضييع وإساءة لمقدّرات الوطن الثقافية وانتماءاته الحقيقية واهتماماته وقيمه وعاداته ، تخريب قمنا به بأنفسنا ودفعنا له من خالص أموالنا وثرواتنا مئات الآلاف من الدنانير ربما كان يكفينا بعضها لأن نضع البحرين على خريطة حقيقية للثقافة ونجعل منها بوابة نعرّف العالم من خلالها مقدّراتنا وهويتنا التي لانفرّط بها ، ونصنع بجزء من تلك الأموال المهدرة مصدّاً لكل طامع ومتربّص بالمساس بهوية الوطن وثقافته وتاريخه وأصوله .
كان الأمل أن تكون هنالك مراجعات معمّقة لأمور كثيرة ، يكون على رأس أولوياتها المحافظة على هوية الوطن وانتمائه وثقافته ولغته وتاريخه وتمنع الاعتداء على هذه الثوابت أو المساس بها ، ولا يتأتى ذلك إلاّ من خلال خطط وبرامج ترسخّها الدولة في سائر أنشطتها وفعالياتها وممارساتها وأدبيّاتها ، وأن تُشَجَّع وتشتغل آلات البحث وأدوات التأليف و( ماكينات ) الطباعة ووسائل النشر على ذلك . وأن يتوقف العبث بمفهوم الثقافة وأن يُصار إلى إعادته إلى السكّة الصحيحة فيُستفاد من المهرجانات التي تحمل اسم الثقافة لتعميق الهوية وتعزيز الانتماء .
بالفعل كنّا نظن أن تلك الأحداث قد أوصلت رسالتها ، فأفاقت النائمين وحرّكت الغافلين ، أو هكذا نفترض لولا أننا تفاجأنا بأن هذا المنحى الغريب و( المسخ ) للثقافة لم يتغيّر واستمر منهج ومفهوم ثقافة ليس له أي مردود على حاضر الوطن ومستقبله في الوقت الذي تسعى بلدان العالم لأن تكون مهرجاناتها الثقافية فرصة ثمينة لترسيخ هويتها وإبراز تاريخها ونشر ثقافتها وليس ثقافة أو فنون ورقصات غيرها .
لكن ؛ ماهي حيلتنا ، طالما أن الثقافة التي نريدها قد تم الإصرار على تغيير معناها وتحويلها إلى ماترون وتسمعون من مسميات وعناوين معينة ويريدون أن يعتبرونها أمراً عادياً ومقبولاً حتى حينما يكون وضوح مخالفتها لمعنى الثقافة أكثر من وضوح الشمس نفسها في بارقة النهار وعزّ الظهيرة ؟! هل نحتاج ما هو أكثر صدّماً مما مررنا به حتى نفيق ونقرّر أن ثقافتنا لاعلاقة لها – مثلاً – بالأوركسترا أو الأوبرا ، لاعلاقة لها بالسامبو والفلامينجو والتايكو ، لاعلاقة لها بالكارمن والتينور ، لاعلاقة لها بباولا سنغينيتي أو يوجين كوهن ، لاعلاقة لها بفرقة معبد شاولين ولافرقة تايم لابس دانس ، لاعلاقة لها بكل أولئك وأمثالهم ممن نقرأ ونسمع عن استقدامهم في مثل تلك المهرجانات والأمسيات البائسة .
ثقافتنا التي تعبر عن هويتنا وانتمائنا العربي والإسلامي لاعلاقة لها بعيد ( الهالوين ) الذي هو عيد للقدّيسين في العالم ، لاتربطنا في البحرين أي صلة به حتى يُصار أن يُحتفل به ليلة 31 أكتوبر على ساحل البحر أمام قلعة البحرين مع ارتداء الملابس التنكرية الغريبة كمناسبة يُقال عن أصلها أنهم كانوا يؤمنون أن إله الموت العظيم ، ويسمى ( سامان ) يدعو في هذه الليلة كل الأرواح الشريرة التي ماتت خلال السنة والتي كان عقابها بأن تستأنف الحياة في أجساد حيوانات في قصة خرافية عن السحرة والأشباح لانحتاج لإحيائها في وطننا الذي تختلف هويته وانتمائه و- الأهم – دينه ومعتقداته عن أولئك المحتفلين بمثل هذه الأعياد .
على أنه إذا أرادوا تغيير معاني الثقافة ومفاهيمها ، وإذا أرادوا تمييع الهوية والانتماء ، وإذا لم يكن الحلال والحرام في وارد الاحترام والاهتمام ، وإذا لم نستشعر موجبات شكر ربّ الكون وحمْده في ظرف ومحنة الوطن ، إذا لم يكن هذا أو ذاك مانعاً فلا أقلّ من أن ننصاع لدواعي إنسانية فنوقف هذه ( المساخر ) تضامناً مع دماء وأشلاء إخواننا من بني جلدتنا وديننا ولغتنا في بلاد الشام ، تضامناً مع نسائها وبناتها الذين صاروا يطلبون ويرجون من علماء المسلمين أن يفتوا لهم بالسماح بقتل أنفسهن حتى لا يتعرضن لاعتداء واغتصاب ، حتى يقضين على الحمْل السفاح ، تضامنا مع أولئك الذين بلغ فيهم الحصار والجوع من شدّته ومأساته أن أفتى بعض علمائهم ومشايخهم بجواز أكل لحم القطط والكلاب .