المقالات

رحم الله لطفي ..

” ألف شكرياأستاذ جمال ، فأنتم في مقدّمة من لايفوتهم واجب ” كان هذا ردّ الأخ الكبير لطفي نصر رحمه الله في (الواتساب) على تهنئتي له بحلول شهر رمضان المبارك . فقد اعتدنا على مدار سنوات طويلة على تبادل التهاني في مثل هذه المناسبات العزيزة ، أحياناً يبادرني لكنني أحرص في الغالب أن أسبقه احتراماً لمكانته وتقديراً لفضله. ولم أتوقع أن يكون هذا آخر تواصل بيني وبين من أحمل له ودّاً وأدين له بفضل المعلّم على تلميذه . فقد اختاره المولى عز وجل إلى جواره في أفضل الشهور (رمضان) وأغلى الليالي (العشر الأواخر) وليلة الجمعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : “ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر”.

كانت قصة أول التحاق لي بجريدة أخبار الخليج في صيف عام 1988م حينما دخلت بعد تخرّجي من الجامعة امتحاناً تحريرياً أجرته الجريدة بإشراف الأستاذ الفاضل أبووائل ، لطفي نصر رحمه الله ، وذلك لمجموعة من المتدربين والراغبين الالتحاق في أقسام التحرير الصحفي المختلفة فيها .

وكان الامتحان يتكون من أربعة أسئلة مجموع درجاتها (100) درجة ، ثلاثة منها أسئلة مقالية تتعلق بصياغة أخبار أو تقارير أو عناوين  وما شابهها ، كان لافتاً أن هذه الثلاثة الأسئلة تحصد نصف مجموع الدرجات المقررة للامتحان ، أي عليها (50) درجة فقط بينما الـ ( 50) الأخرى تم تخصيصها لسؤال صغير جداً قياساً بالأسئلة الأخرى ؛ وهو : ما هو الرقم الموجود على باب الغرفة التي أنت بداخلها الآن (غرفة الامتحان آنذاك) ؟ وعلى ما أذكر أن التنويه المرفق كان ينص ( إذا لم تكن متأكداً من الرقم لا تكتب أي رقم وإلاَ خسرت درجة الامتحان بأكملها ) !! .

كان وقْع هذا السؤال كالصدمة علينا ؛ فهو لم يكن متوقعاً وليس في حسبان المذاكرة والاستعداد المسبق للامتحان ، فضلاً عما يحمله من استفزاز يتمثل في رفض التخمين ، وكذلك تخصيص نصف درجة الامتحان كلّه للإجابة على سؤال غريب ليس له علاقة بالصحافة أو وسائل الإعلام ( أو هكذا كنَا نظن آنذاك ) .

ولم يكن يدر في خلدنا أن هذا السؤال وطريقته إنما يعبّر عن خط  ومدرسة مهنية تعتمد الدقة والمصداقية منهاجاً في نقل المعلومات ونشر الحقائق بحيث يطلبون من مجموعة مثل مجموعتنا أن تفرّط في (50%) من درجة الامتحان إذا لم يكونوا متأكدين من رقم باب غرفة الامتحان التي هم بداخلها ويمنعونهم حتى من التخمين !! وإذا خمّنوا وأخطأوا سيخسرون الـ (100) درجة !

عرفت فيما بعد أن صاحب هذا السؤال هو المرحوم لطفي نصر الذي عرفناه منذ ذاك الوقت وحتى وفاته كما ( الدينامو) لأخبار الخليج التي ليس في وسعنا الآن تخيّل هذه الجريدة العريقة بدونه . حيث عاصر نشأتها منذ صدورعددها الأول قبل مايزيد على الأربعين عاماً وساهم بشكل كبير في وضع لبناتها الأولى وتعهّد متابعة تقدّمها وأصبح أحد أعمدتها حتى أنه لايمكن أن تُذكر جريدة أخبار الخليج بدون أن يكون هو عنوانها وأهم العاملين بها .

وأعرف أن هنالك عشرات غيري من الصحفيين والكتاب والإعلاميين تتلمذوا على يد بووائل رحمه الله ، تولاهم بالتدريب والرعاية ، وزوّدهم من خبرته المهنية مالم يتحصّلواعليه في تعليمهم الجامعي . بداية التحاقي بالعمل الصحفي معه كانت في قسم الأخبار المحلية ، كنت أراقب نشاطه وأعجب من مقدار الجهد الكبير الذي يبذله في صياغة الأخبار التي يكتبها بنفسه وإعادة صياغة الأخبار والأحداث التي يكتبها الآخرون وعنونتها. تجده في الصباح يتنقل من موقع إلى آخر لاستقاء الأخبار وتغطية الأحداث والفعاليات المختلفة ، ثم تجده في المساء في مكتبه بالجريدة يتحمل مسؤوليات – الله العالم وحده- حجمها مستمراً في أدائها إلى -ربما-  ساعات الفجر الأولى دون كلل أو ملل حتى يتصوّر من يعرفه أن الجريدة هي مقر عمله وسكنه الذي لايغادره .

أذكر  أنه في بداية عملي أو تدريبي في الجريدة طلب مني بووائل إجراء لقاء صحفي مع أحد المسؤولين في وزارة التجارة عن موضوع شحّ اللحوم ومدى استعدادات الوزارة لتوفيرها . بعد الانتهاء من إعداد  اللقاء اكتشف الأستاذ لطفي رحمه أن المقابلة تم إجرائها كتابيا . أي أرسلت الأسئلة مكتوبة وجاءتني الإجابة مكتوبة فما كان منه إلا أن رفضها ولقنني حينذاك درساً بليغاً في الصحافة وأهمية أن تكون المقابلات الصحفية وجها لوجه وليس (وجبات جاهزة) وأن الصحفي لايجب أن يكون كـ (ساعي البريد).

 أشياء كثيرة مبهرة في شخصية الأستاذ لطفي نصر رحمه الله ، لعل من أبرزها هي المكانة التي صنعها لنفسه عند مجاميع كبيرة من الناس، كان محل تقديرهم واحترامهم . سواء وزراء أو نواب أو شوريين أو بلديين أو غيرهم من المسؤولين – كبُر شأنهم أو صغُر- بحيث يصعب أن يتم وضعه أو تصنيفه بين الصحفيين والاعلاميين إلا في مقدمتهم، وغالباً ماينادونه بعميدهم. هي مكانة صنعها بدماثة أخلاقه ونبْل تعامله ومصداقية كتاباته وحرصه على علاقاته وإخلاصه لعمله.

من المبهرات في شخصيته حميميته لأصحابه وأصدقائه وزملائه ، وأذكر هنا مدى إشفاقه على صديق عمره الأستاذ حافظ إمام رحمه الله إبّان مرضه ، فقد رافقت ذات مرّة حافظ إمام عدّة أيام حينما كان في رحلة علاج بالرياض في المملكة العربية السعودية فكان الاتصال بينهما لايكاد ينقطع ، أقلّها مرتين أو ثلاث مرات في اليوم الواحد يطمئن فيها بووائل على صحة صديقه.

اما حبه للبحرين وأهلها فإن كتاباته وإشرافه على الشأن المحلي في أخبار الخليج طوال كل هذه العقود تنبيء عن هوى وعشق ومحبة مخلصة لايمكن أن تخطئها العين في كتاباته ومتابعاته ولقاءاته والمجالس التي يحضرها.ولا أدلّ على ذلك من حالة الحزن التي انتشرت في مختلف وسائل تواصلنا الاجتماعي ليلة وفاته .

لن أنسى إشرافه على عمودي راصد طيلة حوالي ثلاثة عشر عاما كان خلالها معلّما أكثر منه مشرفا . وكان ناصحاً ومشفقا أكثر منه مسؤولا . من فرْط ثقتي به أني قد خولته بالتعديل أو الإضافة أو الحذف من عمودي مايراه مناسباَ دون الرجوع إلي رحمه الله . توجيهاته وتصويباته وتشجيعه معالم بارزة في علاقتي معه بل علاقة كل كتاب الأعمدة بالجريدة معه فضلاً عن أنه كان مدافعاً ومحامياً بارعاً يتحمّل بنفسه أخطاءنا وهفواتنا وربما تجاوزاتنا، ولايتبرأ من مسؤوليته عنها .

وبالرغم من اختلاف الآراء ووجهات النظر في بعض القضايا والموضوعات إلاّ أنه لايعمد إلى استخدام سلطته وصلاحياته في منع نشر مايخالف رأيه فقد كان يغلّب مهنيّته على قناعاته وآرائه الشخصية ، وكان كثيراً مايردّد أن تعدّد الطرح والرؤى هو مصدر قوّة وتميّز لأخبار الخليج .

لن أنسى بتاتاَ وقفات بووائل رحمه الله معي خاصة بعد إيقافي عن الكتابة بالجريدة في العام 2016 ومحاولاته المخلصة لإعادتي إليها . هي محاولات بذلها مايقارب أسبوعين قبل أن يهاتفني حزيناً بقوله ( خلاص يابني خرج الموضوع من يدي ، الله يسامح اللي اشتغلوا عليك ). وكان مستغرباً أن الوقف تم بسبب مقال لي لم يتم نشره أصلاً في الجريدة! ويكفيني منه رحمه الله تعالى هذا التقدير الذي يقابلني به كل مرة بعد وقفي عن الكتابة إذ يقول ( أهلا بالأستاذ الوفي اللي خسرناه).

على أن علاقتي مع الأستاذ لطفي نصر رحمه الله لم تقتصر على المجال الصحفي فحسب وإنما بيني وبينه علاقة في المجال البرلماني بدأت منذ العام 1992م في مجلس الشورى السابق الذي كان يترأسه المرحوم إبراهيم محمد حسن حميدان وكنت حينها مراقباً للجان المجلس وكان بووائل يتولى التغطية الصحفية لأعمال المجلس ولجانه ، وهي المهمة التي استمرّ فيها بعد ذلك في مجلس النواب – أيضاً – منذ بداية تأسيسه وتعاقب عليه طوال تلك العقود العديد من النواب والأعضاء الذين لاأذكر أن أحداً اختلف معه في شيء ، بل كانت تغطياته وتعليقاته من الرصانة والاتزان الذي لاينافسه فيها أحد . نال بسببها وفرض خلالها احترام وتقدير الجميع حتى وفاته رحمه الله .

تتزاحم الذكريات والمواقف بحق الأستاذ والمعلّم النبيل لطفي نصر رحمه الله لكن لايسعنا أمام داعي الموت ومقام العِظَة والاعتبار إلاّ الانحناء ورفع أكفّ الضراعة لله سبحانه وتعالى  بأن يتقبّله ويغفر له ويسكنه الجنة ، فقد أفضى إلى ماقدّم ، وذهب إلى جوار الرحمن الرحيم .

رأي واحد على “رحم الله لطفي ..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s