يُروى أنه في العصر العباسي كان أحد المجّان (كثيرُ الْمُجُونِ والعَبَث) بمكة يجتمع إليه قوم يسهرون ويمجنون ، فاشتكاه بعضهم إلى الوالي فأحضره وأنّبه ، ومنع الناس من دخول بيته. وبعد حين انتقل هذا الماجن إلى خارج مكة ، ونصب خيامه وعاد إلى مجونه ، وأخبر زبائنه المُجّان بذلك ، فصاروا يأتون إليه في مكانه هناك.
ثم وصل أمره إلى الوالي فأحاله إلى القضاء لإقامة الحد عليه، وعندما مثل هذا الماجن أمام القاضي أنكر التهمة واعتبر أن الذين وشوا به وأبلغوا عنه كاذبون وأنه لا حجة ولا دليل أو شهادة لديهم تدينه.
فقدّم الذين أقاموا دعواهم ضده للقاضي اقتراحاً ، وهو أن تؤخذ حمير مجّان مكة في الليل وتُطلق ثم تتم متابعتها ويُنظر إلى أين تذهب، فإن ذهبت لوحدها للمكان فقد قامت عليه الحجّة.
وفعلاً وافق القاضي على هذا الاقتراح ، وأطلقت حمير المجّان ، فذهبت إلى مكان الفاسق هذا خارج مكة من تلقائها، وثبتت عليه الحجّة وصدر حكم بإقامة الحدّ عليه ، وجيء به أمام القاضي وصار الشرطة يضربونه وهو يضحك، فتعجّب القاضي من ضحكه وسأل عن السبب، فقال: ما أضحك والله من الجلْد ولكنني أخشى من خبثاء العراق غداً يقولون أن قاضي مكة أخذ بشهادة الحمير. فضحك القاضي وأمر بإطلاقه.. وقال: احفظها لا يسمعها أحد.
استذكر هذه القصة القديمة دائماً واستحضر نهايتها تجاه مواقف ومناسبات عديدة يُستضاف فيها أو يتصدّر مشهد الرأي العام أثنائها من يتشدّق في تصريحاته وكتاباته بالمصداقية والموضوعية والحيادية والنزاهة والتثبت والاستماع للرأي الآخر وما شابهها من مصطلحات برّاقة وشعارات مثالية ما يفتأ أن ينادي بها ويدعو لها في سائر تحليلاته ومناقشاته . لكن – هذا البعض – غالباً ما يضحّي بتلك المعاني السامية أمام أي اختبار يتطلب مناداتها واستنهاضها في كتاباتهم وأقوالهم ، لالشيء سوى أن القضايا موضع اختباره يوافق الخوض فيها – بدون مثالياته الأخلاقية والمهنية – توجّهاته وهواه وتناسب منطلقاته ، وقد تشبع شيئاً في قرارة نفسه ، فلاضير حينئذ أن تغيب عنه موضوعيته وحياديته ومصداقيته طالما أن تعمّد تغييبها يضرّ بخصومه أو من يختلف معهم !!
على أن الأسوأ من ذلك – وهو الشاهد هنا – أن أمثال هؤلاء ، أدعياء الأمانة والنزاهة والموضوعية وفجّار الخصومة ؛ تؤخذ أقوالهم وتُصدّق كتاباتهم ويتم تبنّي آراءهم ، ويُستشهد بها ، مع أن الأولى استدعاء ماقاله ذلك الماجن للقاضي وهو تحت الضرب : أخشى أن يفضحنا الناس لأننا نأخذ بشهادة الحمير.